في فمي أزهارٌ يحاول الصمت تذبيلها

في فمي أزهارٌ يحاول الصمت تذبيلها

18 يوليو 2019
ريم طرّاف/ سورية
+ الخط -

عزلة لطريقٍ مليئةٍ بالهروب

هل من ضجيج؟
وجهي مدينةٌ تحاولُ الخروجَ من دمي المشارف على الصدأ
يداي تحاولان أيضاً الخروج-الخروج من جدارِ غرفةٍ لم تمسسه فرشاة؛
ضجيج؟ ضجيج؟
أوووه محضُ دردشةٍ أرادت بها الريح قضّ مضجعي
وأصواتٌ بعيدةٌ لسقوطِ الحجارة في منزلٍ فارغ
مُوتي أيّتها الريح، وامتدّي كوجوه الغائبينَ في رأسي، امتدّي كزئبقٍ لم يجد عرشاً مغلقاً يجلسُ عليه، قد يصبحُ وجهي للحظةٍ شبحاً يقفزُ من صليبٍ إلى صليبٍ في الليل؛
موتي أيّتها الريح، وترجّلي معي خارجَ الأرض
هناكَ يمكنكِ أن تضجّي كأفعوانٍ ضخمٍ يتهرّبُ من الموت.

الأصدقاء-الأحياء منهم والأموات-يرمون إليّ ببضعِ صورٍ لعلّني أريد تمزيقها حينَ يرتخي رأسي، هذه الصور هي قطعُ رأسٍ مستعملة كنتُ تخلّصتُ منها-أو تخيّلت ذلك.
الذاهبون إلى النومِ باكراً تخيّلوا لو أنّ أعمارهم تطرق أبوابها القديمة بالخطأ، هم شديدو الحزنِ على أشياء تافهة سقطت منهم خلال سيرهم الطويل إلى حيث وصلوا-إلى حيث سيصلون.
الذاكرة مدينةٌ ضخمةٌ تغفو بكبسةِ زر.
ربّما.

نعاسٌ كثيرُ القلق
رائحةُ الشمس تأخذني كثملٍ نحو السماءِ نائماً
لعلّني رأيتُ مشنقةً يتدندلُ حبلُها منتظراً أحلامي التي تبحثُ عن عشبٍ تقتات منه
لعلّني...
عاري الرجلين الذي يتنزّه فوق هذا الجليد يركع عند ركبتيهِ المصطكّتينِ ويتناولَ حبلاً ثخيناً ويحكَ به بعض الأغصان الليّنة وهو يدركُ-أو لعلّه-أنّها غير قابلةٍ للاشتعال، والقرنفلات، تلك التي تنامُ وحيدةً منتظرةً أغاني الغجر، لا يمكنُ للهواءِ أن يرقّع عطرها الذي يسير متقطّعاً ككيسِ قمامةٍ عبث به الضبعُ قبل أن يهرول مقهقهاً.

هاتِ أيّها الجليدُ ما تركتهُ الأرض في باطنكَ من حرارةٍ تكفي لتدفئةِ عنكبوت
هاتِه بسرعة، فأنا متعبٌ كدمعةِ عجوز
وقلّب بأحشائكَ جيّداً تجد جثّثاً تلحسُ جسدك لئلّا تصاب بالعطش.

هاتِ الموتَ الذي تلفّ نفسك به كسندويشة
أنا....................
كلّ هذا الفراغ ملطّخٌ بصفيرٍ حادٍ كطرفِ خزانة
أنا....
لستُ طفلاً كما يقولُ الموتى
لستُ ميّتاً كما يقولُ الأطفال.

الخواء الأبكم؟ بالكادِ يتحسّسُ الطريق
الوقتُ قططٌ سوداءُ قرب حاويةٍ قديمة
أيّهذه الجدران؟ تحدّثي معي قليلاً
في فمي أزهارٌ كثيرة يُحاولُ الصمت تذبيلها
تحدّثي معي قليلاً
يداي عانقتَ ما قيلَ عنهُ تحمّلك للبرد.

يا مدينة
يا عازفَ غيتار كهربائيّ يتلاعب بالتريبل والبيس كمن يضاجعُ امرأةً مازوشيّةً
يا مدينة... يا مدينة...

لا صوت يتقطّعُ في الخارج
تكوّرني العزلة
تكوّر الذاكرة ألمَ قطرةِ المياه المرتطمة بالسطح
وتنفجرُ كعاصفة.


■ ■ ■


عزلة لعابرٍ مليءٍ بالمَقاتل

لتنزلق أماميَ الركاماتُ كي أغنّي قليلاً
لتنزلق أسماء القتلى في ذاكرتي
لينزلق هذا الدخانُ المصبوغُ بجثثٍ كثيرة لبندقيّتين ثملتين
لتنزلق مني مشاهدُ كثيرةٌ لما تركه الهاربون على أرصفةٍ موحشة
...........
لأهبط هناك، في المدينة التي تتثاءبُ رصاصاً
أنا من قلةٍ بإمكانهم أن يعبروا بين رصاصةٍ وأخرى
اصعدوا رأسي أيّها القتلى
اصعدوا ذاك المكان الممتلئ بالدمِ والبطالةِ، وحذاءٍ تدخل الشمسُ من ثقبِ فردتهِ الأولى وتخرجُ من ثقبِ الفردةِ الأخرى
اصعدوا، لكن ابتسموا كالأشقياءِ
فالريح تمضغُ من شفاهِ الأشقياءِ لتمارسَ الجنسَ
ابتسموا.. كي تأخذَ الأرضُ شكلَ وسادةٍ مهترئةٍ ويبدأ الاحتفالُ.

فيّ تصطدم الأصواتُ بالأصواتِ
ربّما الملوكُ يلعبونَ الليخا في رأسي المحروق
وما يقولون من شتائمَ عقب كلّ خسارةٍ رصاصٌ لا يصيب إلا العابرين فقط: عابرون ذهبوا بكرة الفجرِ يبحثُ كلٌّ منهم عن عملٍ يهربُ به من هذا الحصار
حين أراهم
يركضون في الأزقّة المسقوفةِ بالسماءِ النحاسيّةِ
يبكون على الأرصفةِ كسواقٍ عابرة
والأصوات المفاجئة تحجبُ صورهم وهم يرتدون ثيابَ النُدُلِ
النُدُلُ أنفسهم تتصادمُ فيهمُ الأصواتُ
هو الموت غارقٌ في اختلاقِ أشكالَ جد-حيّةٍ-يدةٍ لهُ
هو الموتُ إصبعٌ طويلةٌ تدحشُ نفسَها في وجوهِ أولئك المغامرين الأقوياءِ
هل ينتظرُ منهم حقائبهم ليستريح؟

ألعقُ الدخان
ألعق حريقاً متصاعداً من غرفة جارتي
طعم ثيابٍ داخليّةٍ في انكسار حلقي الشوكي
ثلاثُ حركاتٍ
أمارسها في ظلّ هذا الفراغ المستلقي على طرقات المدينة
طريقاً
طريقاً
في وحشةِ المقاهي المغلقةِ
في أدراجٍ مطحلبةٍ كانت مزروعة بالأطفال وكرات القدم الرخيصة:
أترجّل قليلاً من هذا الكابوس
لأحنّط بعضاً من دخان غرفة جارتي بصورة في التلفون؛
أهبطُ كغيمةٍ فقدت خفّتها
قد أستطيع إخفاء بعض ما بكته الحجارة من غبار
وما بكاه عاشقانِ يتشاركان علبة سجائر بجانب المقبرة؛
أبخّرُ خرافاتي القاتلة
تلك التي قالت لي إن القبور هي منازلنا المؤقّتة
مؤقّتةٌ؟ كيف ذلك وهي الوحيدةُ التي لا يطالبنا أحدٌ بإخلائها؟
.......
ثلاثُ حركاتٍ
أيّها الإلهُ الجالسُ بهدوءٍ فوق كلّ هذا الضجيج
إنها نهاية الكونشرتو
يلتئم جميع المحاربين ليطلقوا رصاصةً واحدة.


* شاعر من لبنان

المساهمون