قلوب عَبّاد الشَّمس

قلوب عَبّاد الشَّمس

10 ابريل 2019
(مقطع من عمل لـ أميرة بهبهاني)
+ الخط -

قال لي يوماً 
سَتموتينَ أو تَتَغيّرين...
غيرَ أنّهُ لم يشرَحْ أيَّ موتٍ يقصِدُ،
أو هو لا يُدركُ أنّ الموتَ بحدّ ذاتهِ تَغَيُّرٌ...
أو أنّنا يمكنُ أن نحيا موتى بمجرّدِ أن نتغيّرَ...
لكنّي...
لمْ أتغيَّرْ وَلَم أمُتْ،
مَازلتُ آكلُ الطّقسَ نيّئاً،
وبِأصَابعي،
دون حاجةٍ لطبقٍ وسكّين.
مازلتُ أُخزِّن فصولَ الفرحِ
كما تُخزّنُ الجدّاتُ فصلَ الرّبيع
في قَوَاريرِ مُربَّي الفراولة.
مازلتُ أشربُ أزهارَ الشّاي
فَيَسيلُ حقلُها نهراً في حلقي.
مازلتُ، حينَ مَا يظنّهُ الآخرونَ شَقْشَقَةَ زلزالٍ،
أُسرعُ بِوضعِ أُذُني على جدارِ الطّوبِ،
فأسمع جيّداً لغط أصابع البنّاء.
كلُّ ما أعرفه 
أنّي حين تعلّمتُ المشيَ
لم أكنْ أقصدُ الوصولَ إلى حافّةِ الأشياءِ
غير أنّ الشّفرة في نَعلِي
تجرم في تعديلِ خرائطِ الطّريق...
ولا تهتمُّ أبداً منْ أينَ يبدَأُ التّرتيب ،
ولا أينَ تنتهِي الخساراتُ....
(فلاش باك) flash back
الذّين عبروا ممرّات روحي
دون أن أسمع لهم قرقعة
لكن حين غابوا تركوا شيئاً بالدّاخل
والتصقت قروحهم بغراء عظامي:

المرأُةُ التّي سمعتْ جَلَبةَ الجرادِ في صمتي
وتشقّقَ قصبِ الأفكارِ في عُشّ دماغي،
حينَ هممتُ بخَلْعِ رأسِي،
قالَت لا... ليس بعد،
بل أُدخُلي النّهرَ،
فللعطشِ بابٌ رئيسيٌّ
كيف حَزَرتْ أننّي أشبهُ الماء في ذاكرة البئرِ؟
...
عرّافةُ كفِّي حين ساعةِ الضّيقِ
من قاعِ عينِها رأت ما لا يُرَى:
في يُتْمِكِ، سَيَلِدُكِ رِجَالٌ كَثِيرُونَ بِدُونِ طَلْقٍ.
كيف عرفتْ أنّي مَضَغْتُ صوتي وبلعتُهُ ولم أذهَبْ بعيداً،
رغم أنّني لم أُولَد خرساءَ
وحبلُ سُرّتِي لم يكنْ قصيراً؟
...
العجوزُ التّي أسرّتْ لِلغَرِيبَة:
علّقي حزاماً من أحصنةِ بحرٍ حولَ خِصرِكِ،
خُدعة ستضمَنُ للحظ أصلاً تجاريّاً.
الغريبةُ ارتدتْ جوارِبَها الحريريّة الجديدة
وأسندتْ ظلّها للدّفء...
ظلّتْ طويلاً تضعُ ساقاً على ساقٍ
وتُقزْقِزُ قلوبَ عبّادِ الشّمس...
الغريبة الّتي ماتت
أخذتْ كلّ حبوبِ الانتظار على الرّيقِ...
...

العاهرةُ التّي شَاركتنِي الرّحلةَ
وخزتْ مُؤَخَتَهَا نظرَةٌ حادّةٌ
نَسِيهَا مسافرٌ في مكانهِ قبلَ النُّزولِ.
سَاعةَ ما بعدَ الـ "آيْ" بِقليلٍ
لعقتْ بِعينيها نافذةَ القطارِ
وقالت: دمي كان نظيفاً،
تَأخذُ فِيهِ أشْجارُ الكِينَا قيلولتَها،
قلبي مدِينة ألعابٍ...
رعشَةُ أَصابِعها ونَهدُها الأيمنُ قالا كلاماً آخَرَ مُختلِفاً تماماً.
صَرختْ: لاَ تَنظرِي لِي هكذا،
لقدْ كانَ كُلُّ هذَا قبلَ أَنْ أسْقُطَ مِن لُعبةِ بَالِّيرِينَا لم تتوقّفْ عن اللَّفِّ بِي،
واسْتفقتُ بعدهَا على خبرةٍ جيّدةٍ بِمَلْمَسِ العظامِ..
آسفة أيُّها العالم الذي لم أعرِفْ من أينَ تُؤْكلُ كَتفكَ،
آسفَة أسَفاً لو وُزِّع على كُلّ المُخطئِينَ لَكَفَاهُمْ،
كلّ الأحلام التّي تَسقطُ كالأسنانِ اللَّبَنِيّة تنبتُ ثَانِيةً،
إلاَّ أَحلامِي..
بلا سببٍ! أو بسببٍ لا أدريهِ!!
تَنبتُ دمَّلاً قُبالةَ الرِيحِ.
كَمْ مرّةً قَرَّرتُ أن أموتَ تحتَ إشْرَافِي،
لكن لَم أَمُتْ،
وأيضاً...
لا أحيا....
...
البحَّارُ الأدْرَدُ،
يَكبرنِي بِغَلْيُونٍ و بحرٍ،
عَلَكَ حِكمتَهُ الخفيفةَ كجَرَّةِ كُحْلِ في عينٍ:
الموتَى حبّاتٌ مُرَّةٌ، ترفَعُهمْ الأَرضُ على طَرفِ لسانهَا،
تتذَوَّقُهمْ ثمَّ تُغَيِّبُهُم داخلَ بطنِهَا..
لكن غالبًا ما يكونُ الغيابُ ناجحاً 
لأّنّهُ مَعصومٌ من بذورِ خطايَا الحضورِ.
من حِكمةِ المَاءِ أنَّهُ أَقراصٌ مُهدِئَةٌ،
تُعطي الغيابَ وِجْهات نَظرٍ عَمْياءَ،
وتفتحُ لهُ، بِحِبرهَا السِّرِّي، طُرقًا سِرِّيَةً
وتجعلُ الحُزنَ في البحرِ خفيفاً،
كالتَّبوُلِ في البحرِ.
جنازةُ البحَّارِ كانتْ صفراءَ،
بَاهِتَةَ الحزنِ، كشارعٍ رَئيسيٍّ بعدَ تَشطيبٍ سريعٍ لِبقايَا انتِفاضَةٍ،
وخَفيفةً أَيضاً..
تمامًا كالتَّبَوُلِ في البحرِ..


* شاعرة من تونس

المساهمون