بسبب خطأ في النَّحو

بسبب خطأ في النَّحو

20 مارس 2019
صليبا الدويهي/ لبنان
+ الخط -

سكَّان اللامكان

هم العالقون بين مستحيلين بأجنحتهم الوَرَق وعُيُونهم الصحراوية.
هم كنّاسو الحدود بأقدامِهم الذَّهَب في حقول الانتظار.
هم المنحدرون من نَسْلِ الرُّمّان فوق الأسلاكِ الشائكة والجدران المُفتَرِسَة.
هم المُنَجِّمون الأبرياء، الغافلون عن لِحَى الغاباتِ الطويلة لظلالهم، وعن عَيْنِ الأرض المُسْوَدَّة بأَمَلِهم.

هم سكّانُ اللامكان؛ أشباهنا في المشي حول بحيرة، وأشقاؤنا في الاقتلاع ونَبْشِ قُبُورِ الماء.
هم المُزَنَّرون بالغُبار، المرتجلِون تَرْحَالهم كلما باغتهم جبلٌ في سَكِينة الضَّيَاع.
هم الواقفون هناك على ضَفَّة الحَيْرَة، وأمامَهم نهرٌ عظيمٌ من معاصر اللامبالاة النقيّة.
هم المطمئنون على النهايات، المنتصرون والمنهزمون في آن، لأنّهم عراةٌ يلمسون الليلَ؛ فتسطعُ نظراتُهم كيَأسِ الضِّبَاع.
هم الذين يتقاسمون أقدارَهم بهنَاءَةِ العُشْب والحصى، وينحدرون مع الصُّخور في ملحمة السُّقُوط النارية؛ يئِنُّون أو يزأَرون ولا يرفعهم صدى.
هم العارفون بأنّ لصُراخهم ليلًا لا يَسَعُه الأبد. تمتدُّ حرائقُهم على طول الطَّريق وليس في سيماهِم حَطَب.
هم الهادئون بكلِّ حُطامِهم، وأجسادُهم مُكدَّسة كما لو من حُبٍّ مُنكَسِر.
هم الدافئة عيونهم في الصَّبْرِ، الناتئة قلوبهم في العَراء.
هم الذين نسوا أسماءَهم لفرط ما صدَّقوا كتابَ الرَّمْل.
هم الذين عادوا فكَذَّبوا الماءَ والشمس، ثم أخيرًا أَرْسُوا نِعَالهَم في ذاكرةِ هذا الحِبْر.


■ ■ ■


البحيرة

بحيرةٌ خضراء لا تشبهُ أَلَمِي،
تُعانقُها أشجارٌ مُرتعشة ولا تَقْلِبُ فيًّ حجراً.
ينامُ زَنْبَقُها داخلي كتمساح،
كأملٍ اصطناعي في صوتي المريض.
وحدَها الظِّلال تسحرُني،
تجذبُني من عتمتي وتبسطُني كعَيْنِ بحّارٍ قديم.
وحدَه الهواءُ يشبهُ مِزاجي الخفيّ آنَ أغرقُ في الصخر.
أَظْلِمْ يا قلب الماء كي أشتهيكَ،
كي تتعرَّى عينايَ أمامكَ
وتنثرَ هشاشتي وردتهَا في الريح.
أَظْلِمي يا بحيرة من بريقِ اللانهايات،
فكم من عُصُور العَجْزِ تطمسين في كلِّ وَمْضَة!
أَيّتها الكبرياءُ المائيةُ الطوباوية
اُنْظُرِي إلى الأسفل؛ إلى منطقِ العِظَامِ الباردة،
بسببِ خطأٍ في النَّحْو، أحزنُ،
بينما أنتِ مجبولةٌ بعُبَّادِ الأوهام
وترقصينَ بخَلاخِيل سُوءِ فَهْمِهم.
أنتِ يا قطرةَ ماءٍ في عَيْنِي؛ لا أكثر،
جئتُكِ أبحثُ عن ظِلِّي،
أنا النَّارُ الصغيرةُ بين مصائب لَذَّاتِكِ.
ليس في ذِهْنِي سمكة
ولا ريشة منْ بَجَعِكِ،
أَترنَّحُ بوَحْشِ الوَحْشَةِ الكاسِر
وأَحلمُ بأشياءَ ضئيلةٍ، وبلا اسم.
جئتُكِ بفعلِ الرياحِ والأمواجِ وما هو أدهى،
مأخوذةً بمظهركِ اللإنساني،
أَسألُكِ أنْ تلفظي صمتي من العَظْم
حتّى يطفو عشبُه على وجهكِ،
أنْ تصقلي مخيّلةَ أعماقِكِ
حتّى تعكسَ شَعْرةَ الألم تحت جِلْدي،
ولا مانعَ لديَّ أنْ تُدْمِيكِ الشمسُ بعد قليل؛
ستمنحُكِ لَحْمًا بَشَرِيًّا،
وسينشقُّ فَمُكِ الأخضرُ عن قسوةٍ ما؛
فلا تمكثين في رخاوة "كيتش" يسيلُ له لعابُ الأموات،
وقد تمتدُّ شَعْرَةُ قرابةٍ بيننا،
وربما نتفاهمُ على نقطةِ ضَوْء؛
فتداعبُ عَيْنَايَ عُشْبَ كائناتٍ مُتراقصةٍ مثلكِ،
فلا تزيدُني وَحْدَةً.


* شاعرة لبنانية مقيمة في أميركا

المساهمون