فرِح لأنه كابوس

فرِح لأنه كابوس

11 مارس 2019
أرتورو مورين/ إسبانيا
+ الخط -

نوم

خلّف البرجيْن وراءه، ومشى متمهّلاً.
أمامه كان القطار ينطلق متمهّلاً أيضاً، والشارع شبه خاوٍ. حاذى النادي واقترب من الواجهة: في الأسفل ثمة مسبح، وشابّات يسبحن. تأمل انسيابهنّ الرخيّ عبر الزجاج، وفكّر: أول مرة. تقدّم، ودلف إلى الحديقة.
جلس على ثاني كرسيّ في الممرّ الأول. وجد تفاحة وعشرة سنتات على الخشب، فالتقطهما، واسترخى.
خلفه، حول النافورة، كان عازف التوبا يعزف مستوحداً. الصوت أجشّ وجهير وملتاع. أنصت بتركيز. يأتون إلى هنا ليتدرّبوا. العازف يجهش ويتلوّع. قام وعلى الكرسيّ الثالث وجد عبوة ممتلئة فشربها، ثم وجد في سلّة المهملات خُفّاً أصفر بفراشتيْن.
تفحّصه: لا شائبة. فكر في قدمي أَلْبَا الصغيرتين: سيعطيه لها آن تزوره.
واصل ثم أخرجه من الكيس وتفحّصه مجدّداً تحت عمود النور. لاحظ تمزقاً هيّناً في نسيج الفردة اليمنى عند الإبهام. رماه في السلة الموالية.
عاد وقد اشتغلت البيرة للمقعد الأول. أشعل نصف السيجارة وأنصت. من أي بئر تأتي بهذه اللوعة يا فتى؟
الليل ساكن، وثمة ضباب حول المصابيح.
من أيّ بئر؟

وتمدّد.


■ ■ ■


إساءة

ثلاثة يكرهها خورخي:
السمك والهامبورغر والبديهيّات.
حين تُكلّمه - عَرَضَاً - ولو عن "نجمة البحر"، يذهب ليشرب كي يمسح من أنفه شبحَ الرائحة، ومن ذاكرته شكلَ الحراشف والزعانف والخياشيم.
حين تقول له إن الهامبورغر - صناعة الدولة الأعظم - غزا العالم، يذهب ليشرب كي ينسى العالم والصدفة الحمقاء التي أولدته في زمن هذه الدولة.
وحين تقول له في الأسبوع سبعة أيام، يذهب ليشرب كي ينسى إساءتك "المقصودة".
خورخي لا يحب إساءة الناس له. أَوَجدها في المقهى أم التلفزيون أم الموسوعات.
لمَ يا خورخي؟
لأن الله خلقني هكذا.
كيف؟
اسأله هو لا أنا.
وخورخي منذ تقاعد، أعلن نباتيّته الصارمة. ممنوع دخول أي نوع من اللحم للشقة.
سامعة يا لولا؟
سامعة يا خورخي.
إذا هبّ على بالك البروتين، حتى في البيض، مطاعم برشلونة قدّامك.
فاهمة يا لولا؟
فاهمة يا خورخي.
هكذا يمكن للمرء أن يحتمل الحياة في هذه الشقّة!
يُردف خورخي، وتلتقطها لولا، وتؤثر عدم الرد.
منذ تقاعد خورخي، وهو بحّاثة مشاكل، كبيرة كانت أو صغيرة.
هل نسيتِ يا لولا، كيف أشعلَ الحرائق، مطلع حزيران الماضي، حين زارتنا تيريزا بحفيديها؟
تيريزا تلك الصديقة الأعزّ.
لم يحتمل حفيدها حين دلق كأس العصير على الموكيت الجديد.
زوجك جُنّ يا لولا، ولا مناص أن تجاريه وتتحاشيه، وإلّا احتجتِ لعربة مطافئ كل ليل.
ولولا لا تحب خورخي على هذه الحال، لكن الخيارات معدومة. ثم ماذا تقول عائلتانا لو تطلّقنا؟ وماذا عن الولد والبنت في بيت الزوجية؟
كلّا يا لولا. الصبر ولا شيء سوى الصبر.
وخورخي يقرأ أفكارها من نظراتها الزائغة فيستفسر عنها:
تنكر لولا وتبتسم له فيغضب.
فخورخي كمان يكره ثلاثة:
الصدفة الحمقاء التي جمعته بهذه المرأة.
وابتسامتها الخيشومية.
لذا سيذهب الآن ليشرب!


■ ■ ■


نمط

اثنان لا يقربهما رامون إلّا على ظلّ شمعة: النبيذ ويولندا. وثلاث لا يقربها رامون إلّا في وهج الشمس: البيرة، السجائر، الجريدة. وثلاثه إلّا في غسق الليل: الله، ودواء الحساسية، وموت أمّه.
ولأن القالب غالب، ضاعت حياة رامون في حي إلبورن، بين صرامة هذه الأعداد. كم مرّة فكّر بتغيير حياته؟ الوقوع في النمط غلط ـ يزأر. والحياة تُمنح لمرّة واحدة.
غير أنه لا حول ولا إرادة.
واليوم، وصل رامون إلى الحلّ الأمثل: الانتحار، واحتار أيّ طريقة يختار؛ فالطرق متنوّعة، وبعضها قاس، وبعضها أشدّ قسوة، أمّا انتحار الجبناء بالكحول والحبوب المنوّمة، فلا يليق برامون.
رامون يريد طريقة مبتكرة، مثيرة وإبداعية إن جاز القول.
شهران عبرا، ورامون يقلّب الفكرة وطُرُق تنفيذها في رأسه. شهران وما من رسوّ، حتى توصّل إلى هذا:
سيُطلق رصاصة من مسدّسه الصغير على رأسه، وهو بين نهدَي يولندا.
ثم تراجع: لا. هذا خيانة لمبادئي في عدم إيذاء الآخرين (ويولندا بالتأكيد واحدة منهم)، فضلاً عن أنه حلّ غير مبتكر، كما عاهدت نفسي.
شهر ثالث عبر. وما من رسوّ، في بحر أفكاره المتلاطمة.
ماذا تفعل يا رامون؟
لا بد من استمزاج آراء الآخرين. حقّاً هذا أمر طيّب. والآخرون عند رامون هم رفاق الحانة في منطقة البريد.
إنهم يهزلون كثيراً، ولا شكّ سيسخرون منه، لكنّ واحداً أو اثنين منهم، سيدلّانه على ما يشتهي.
وذهب رامون.
ومرّ أسبوع حتى تمخّضت رأسُ أحدهم في لحظة ثَمَل عن الحل السحري:
ـ رامون! اذهب إلى البحر، وخذ مركباً خفيفاً، وبعد جولة بين الأمواج أطلق النار.
ـ معقول.
وفعلاً، عاد رامون للاستوديو في ذلك المساء، وهو ناوٍ. لكن حلم تلك الليلة أيقظه وأنقذه؛ فقد رأى نفسه في البحر، يتطوّح به المركب البلاستيكي الخفيف، في يوم حزيراني قائظ، وأطلق النار... فسقط ببطء مروّع على لوح المركب، وسط لا مبالاة وانشغال المصطافين.
استيقظ رامون قرب الفجر، وهو يلهث ويتذوّق مرارة استغاثة رهيبة ما تزال عالقة بلسانه، بل إنه ردّدها وهو صاح.
يا للهول.
قام للحمّام وتبوّل، وفرِح أنه كابوس.
ومن يومها ألقى رامون بفكرة الانتحار في المرحاض وسحب السيفون.
قال: الحياة تُمنح لمرّة واحدة، وإن كان لا بد فلتُبدّد في النمط.
ما إن قال رامون هذه الجملة لصورته في مرآة المطبخ، حتى شعر بالبهجة وبشوق هائل إلى حياته الماضية:
اثنان على ظلّ شمعة. ثلاث في وهج الشمس. أربعة.. إلخ.


■ ■ ■


ضجر

لفّت سيجارتها النحيلة، بلا مصفاة، وأشعلت القدّاحة.
قُبالتها، بجانب سينما فيلموتيكا، تقف الأوكرانية الجديدة، شبه عارية، وتهتف آنَ تُسأل: 15!
اللعينة: لها جَلَدُ بغْل على الوقوف، ولا تنقطع عن الغناء. مع ذلك، صعدت بالزبون مرّة واحدة منذ الصباح.
رغم جمالها، بياضها، فتنتها، مرّة يتيمة طيلة هذا الثلاثاء اللعين.
فكيف ستظفرين أنتِ بسماركِ وقامتكِ القصيرة، وبسعر الأربعين يورو على زبائن؟
الرفيقات يلعبن بالسعر حسب السوق. والسوق كاسد منذ أول هبّة برد. بعض الأفريقيات نزلن بالسعر لعشرة يورو. ومع هذا.. لا أحد. لا هندي أو باكستاني أو مغربي.
فالحال واحد: يكسدون فنكسد. أما الأوروبيّون، فيأتون بالصيف. ومعظمهم يترفّه مع زبونات الفنادق.
انطفأت سيجارتها، فأشعلتها ثانيةً.
مرّ قط، ومر شرطيان.
أشاحت بنظرها، وفردت طولها، وراحت تتمشّى بين محالّ الموبايل والسينما.
هو الضجر الذي تعرفه..
وأشعلت السيجارة للمرّة الثالثة.


* شاعر وكاتب فلسطيني مقيم في برشلونة

المساهمون