النشيد الوطني تقوده رتيلاء

النشيد الوطني تقوده رتيلاء

10 مارس 2019
(أحمد حيدري)
+ الخط -

كانت تجثُم على صدري، شعرتُ بوزنها، الوزن المتصاعد مع كل خيط نور. ما زلتُ، وبعد مضيّ أكثر من عشرين سنة، أشعر بها تجثو على صدري. أفزّ من النوم وأنا أذكر كل تفاصيل النور الكاشف عن انحناءتها وهي على صدري.

كنتُ، حينها، في الثامنة عشرة وحان موعد تجنيدي. ومثل حالات أخرى ضربتُ بعرض الظلام كلّ مقترح لأكون بمدينتي مجنّداً. بل تماديتُ لأتصيّد دفعةً سيختارها الجيش. والخدمة العسكرية في الجيش الإيراني هي الأصعب. تدريبات يعود تاريخها إلى بداية تأسيسه، قمل وقلّة طعام ومناطق خطرة وضبّاط أنيقون صارمون. كلّ مَن دخل الجيش عاد لنا مُغطّىً بوحل الندم.

خسرتُ الكثير من السنوات بتفضيلي النوم متأخّراً والاستيقاظ متأخّراً. وحافظت على هذه العادة في بداية التجنيد. أبحث عن أبعد أماكن لا تخطر على بال، لأنام فيها ساعات الفجر. فمنذ الخامسة فجراً، يوقظوننا بطلقات تشوّشنا. بعد أن اكتشفوا كل مخابئ نومي، حصلت على مكان لي في مخزن الحقائب، الملتصق بالمنام. أرشو حارسه تمراً وسجائر للنوم حتى انتهاء الفطور، وأحظى بساعتَين من النوم. ثمّ هناك من يردّ بـ "مَن"1 حين ينادون باسمي في الطابور الصباحي. وعلامتي للخروج من مخبئي هي صوت الشبع عند الجنود حين يغادرون صالة الطعام.

في أحد الأيام، وبينما كنتُ نائماً في مخزن الحقائب، شعرتُ بثقلها على صدري. لم يمضِ أكثر من نصف ساعة، فظلام الفجر يغطّي المخزن. وبعد اكتساب خبرة الاختباء فيه، بتُّ أبني جداراً من الحقائب وأجعل فجوات فيها لكي تمرّ العصى التي يغرسونها للبحث عن النائمين دون أن تمسّ جسدي. شعرتُ بالخطر من النائمة على صدري، فحرصتُ على عدم الإتيان بأيّ حركة مباغتة تصدر من جسد خائف. انتهى الفطور وصوت الشبع بات واضحاً.

دخلَت خيوط النهار الضعيفة من بين فجوات الحقائب، وها هي معالم القابعة على صدري والشاعرة بدفئه تتّضح. قائمتان مرفوعتان ونابان سوداوان. اكتشفت خطئي بسرعة. حين اتّضحَت لي تسارعت أنفاسي، فرفعت قائمتيها الأماميتين للهجوم. أعدتُ ترتيب أنفاسي فانخفضت القائمتان، لكنهما لم تنزلا كلّياً. ما زالتا تشيران إلى حالة الهجوم. وصل دور العدّ ثم النشيد الوطني.

كنّا أكثر من 400 جندي لا يعرف ولا واحد منهم النشيد الوطني لوطنه. أصوات الأربعمئة تثير صاحبتي. أشرقت الشمس ومعالمها اتّضحت وناباها مستثارتان. في أيّة لحظة قد تغرسهما في صدري ولن يكون لديَّ وقتٌ لإزاحة كلّ الحقائب والخروج. كأنها مايسترو تصحّح أخطاء الفرقة التي أنتمي إليها. ماذا لو كان النشيد الوطني ما زال كما ظهر أوّل مرّة؟ مجرّد مارش. ففي 1873 كان النشيد الوطني الذي لحّنه الفرنسي آلفرد لومر مجرد "مارش". ولم يزد يوهان شتراوس، بعد أربع سنوات، إلّا مارشاً جديداً بدل القديم. حتى حين وضع شاعر إيراني كلمات النشيد الوطني، ردّد الطلّاب المبتعثون إلى ألمانيا بدل النشيد "عمو سبزي فروش"2.

لسنا الوحيدين ممّن لا يُجيدون النشيد الوطني إذاً. كنتُ أخاف من وصولهم إلى نهاية النشيد الوطني حيث الجملة الوحيدة التي يعرفونها، والتي زرعها الشاعر ساعد باقري في نهاية قصيدته "جمهوري إسلامي إيران". وقبل الوصول إلى الجملة الأخيرة، اعترض ضابط التدريب وطلب منهم الركض لأعلى الجبل. كانت قاعدةً مخفيّة بين الجبال. وكنتُ أسمع جملته المأثورة "لدينا حقّ تقديم ثلاثة موتى". وكادت تتحقّق أمنيته في ذلك الصباح.

فبعد أن صعد أكثر من 400 جندي جبلاً، نزلوا ركضاً فسقط مسعود، وأنا مطمئن من أنه يحفظ النشيد الوطني لأنه يحفظ أغاني باللغة التركيّة والفارسية حسب مناطقها ولهجاتها وأغاني باللهجات العربية وأغاني مايكل جاكسون. حين نزل زاحفاً على بطنه من الجبل أخذوه إلى الطبيب. وبعد فحصه وجدوا أنّ إحدى خصيتيه اختفت من كيسها. ممّا استدعى أن يطّلع العقيد على الخصية المفقودة ثم الضبّاط ثم العرفاء ثم الجنود المكلّفون بتدريبنا حتى وصل دور الخصية لنا. هكذا رووا لي في ما بعد. وأعاد خصيته بعملية جراحية بعد أن حصل على تسريح مشرّف.

وبعد أن قرّر الزواج، إثر ضغط السقوط والارتباك، وجدَت لها مكاناً في بطنه. وبعد أن ارتفعت الحرارة في مسجد سليمان، حيث اكشف البريطانيون النفط لأوّل مرّة، وحيثُ سُجّل أوّل فيلم وثائقي، وأضفنا لثقافة عتيدة تحبّ مفردة "أوّل" أكثر من حبّها لأبنائها، أنّنا أول دفعة تشرب الماء مثل الماعز من الجداول بعد انتهاء مخزون المياه العذبة، بعد أن بات المخزن أدفأ من صدري ترجلت الرتيلاء عن صدري. وخرجتُ لأجد الضابط في انتظاري. طلب مني نزع بسطالي وقال: "تصعد ركضاً وتنزل ركضاً، وهو موعد خروج الرتيلاء3 من مخابئها".


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش داخل الهامش

أحمد حيدري كاتب ومترجم من الأهواز. ترجم عدّة روايات من الفارسية إلى العربية؛ من بينها: "خالي العزيز نابليون" لـ إيرج بزشك زاد، و"صيف ذلك العام" لـ طاهرة علوي، و"أصفهان نصف الدنيا" لـ صادق هدايت، و"الكتابة بالكاميرا" لـ إبراهيم كلستان، و"فروغ فرخزاد، السيرة الأدبية ورسائل تُنشر لأول مرة" لـ فرزانة ميلاني.

في باكورته الروائية بالعربية "حمار الغجر الأحمق" (دار الجزائر تقرأ/ 2018)، تناول العوالم الغرائبية للغجر في إيران. إنها روايةٌ عن "هامشٍ داخل الهامش قليلاً ما نلتفتُ إليه"، وفق تعبيره.


1 "مَن" تعني أنا
2 "عمو سبزي فروش" بالفارسية، وتعني عمّي يا بائع الخضرة
3 الرتيلاء نوع من العناكب الكبيرة

 

المساهمون