صفير أخير

صفير أخير

21 فبراير 2019
(جان بورتانت، تصوير: فرجينيا مونتيفورت)
+ الخط -

أبي، كان ممدّداً في دُرْجٍ منزلق. مثلما شيء منتهي الصلاحية. لكن لم نقرّر التخلص منه بعد. لا أحد يعرف متى. قديماً، كان الموتى يعودون إلى بيوتهم قبل أن يواروا التراب. كنا نزيّن الباب الرئيسي بستارة سوداء وشراشف سوداء أيضاً، لها حواف وأطراف مخملية ذهبية. كان هذا يشيع جوّاً من الهيبة لدى العابر الذي يعرف أن الحِداد يحلّ هنا.

كان البيت يتحوّل إلى مشرحة حميمة، فيما تتدلّى الستارة السوداء ممرّاً إلى عالم مجهول. كما لو كان رحيله مؤقتاً فقط، كان الفقيد يستريح تحت السقف ذاته الذي غادره كالجميع، ما يكفي لإغفاءة قصيرة. يمكننا السهر بقربه دون تشييع جثمانه في غرفته. كانت الحياة تستمرّ بجواره. وحده الديكور- الشموع الجنائزية، الشمعدانات، الكفن، الجعة، ثم أكاليل الزهر - يُفشي هذا اليوم المشهود الذي تعيشه العائلة.

الديكور والرائحة الغريبة القادمة من ما وراء الحياة. الأقارب كانوا منهمكين داخل البيت في تحضير وجبات الطعام وإلباس الأطفال، صامتين في أغلب الأحيان، مخافة إيقاظ الجثة التي تنام في الجوار. كان ثمّة رتابة ومهابة تنتشر في آن معاً في الهواء. جسر موصلٌ ما بين العالمَين. الجسر الذي كان يعني أن الموت بالمجمل رحلة عادية في متناول أي أحد، بحلول الوقت المناسب. كما يتيح هذا الجسر؛ عبر مهابة رصينة وجوانية، للحِداد أن يباشر عمله. لكن الزمن قد تغيّر. أصبحت الآن حجرة ثلاجة المستشفى المقرّ الأخير قبل اللقاء بالنعيم أو الجحيم.

الموت المنزوع الاسم حلّ محلّ الموت الحميم. لأسباب صحية، كما يُقال، قطعنا الحبل السرّي بين الموتى والأحياء بمجرّد أن يلفظ الجسد آخر نفَس. الموت كما الولادة التي لم تعد أيضاً في البيوت. كان حالة سريرية يتم التعاطي معها بعيداً عن العائلة. أبي كان نائماً آخر رمق في دُرْج الثلاجة.

في حجرة تبريد مصحّة سانت ماري، الدكتور كاب، مرتدياً بلوزة بيضاء غير مزرّرة، تكشف عن قميص أبيض أيضاً وربطة عنق حمراء خمرية؛ فتح باباً يخفي وراءه الأدراج المنضّدة بعضها فوق بعض. حسب الترتيب الأبجدي. قبل تحريك الدُرْج في الجزء السفلي من هذا الركام من الأدراج. تردد كاب. انتهزتُ الفرصة لتأمُّل يده اليمنى بأصابعها المفتولة كما لو كانت لعازف بيانو. وبدوره استرق النظر إليَّ لحظةً، لتشخيص بوادر الحزن. كنتُ أعرف أنها موجودة. لكن كنت أجهل إن كانت مرئيةً، فيما بدت في عيونه واضحة.

كان لدي إحساسٌ أيضاً أنّ دمعة تشكّلت في الزاوية الداخلية للعين. "كلّنا مررنا بهذه الظروف"، بدا كما لو أنها همست لي، لذا فكّرت أن أسأله ما إذا كان والده لا يزال على قيد الحياة، لكنني قاومت هذه الرغبة، حجرة التبريد لا تسمح بهذه المكاشفات الصريحة. كيف يتسنّى، سألت نفسي، لطبيب مثله، يرى المرضى يموتون كل يوم، أن يشعر بوفاة أحد أقاربه؟ هل كان متمرّساً؟ كهؤلاء الجنود؛ الذين يشقّون طريقهم وسط أكوام القتلى، لم يعودوا يفرّقون بين الجثث الهامدة والطريق التي تتعفّن فوقها. أم يستعيد مع كل مريض موتَ أحد أقاربه؟ انفتح الدُرْج. لا لزوم لوجود كاب. بدا كما لو يعرف سلفاً، وتركني وحيداً مع ميّتي.

سحبتُ نفساً سريعاً. في حجرة التبريد. الشيء الذي أتاح لي تسليط نظرتي الأولى على الموت. سحبتُ نفساً ثانياً من الهواء البارد، وثالثاً، قبل أن تقع مقلتي على الجثمان الهامد لوالدي. ثم فكّرت في كاب. لم يكن هو من قتل والدي. كان الله. بدا والدي نائماً. كان ثمّة ما يشبه طلاءً بلون الكراميل يعلو خدوده وجبينه. كما لو أن شمساً غير متوقعة لوّحت بشرة وجهه فيما كان عائداً من عطلة طويلة على شواطئ البحر الأبيض المتوسّط. جفونه منسدلة. ابتسامة عالقة متأهّبة للميلان قليلاً إلى الأعلى عند الزاوية اليمنى. رأيت كل شيء من أعلى. منتصباً على قدمَيّ، لأنني لم أكن أملك الشجاعة أن أجلس القرفصاء.

أمام ناظري، كان المشهد متداعياً، بدءاً من شعر أبي الفضّي. كانت خصلاته مسترسلة أكثر من المعتاد. سيقان الشعيرات لم تكن منتصبة. بذلة سوداء مصمّمة بعناية، تتألّف من ثلاث قطع، سترة مزرّرة، صدرية من الواضح أنها بساعة في الجيب. ياقة قميص منشّى ومسلّك، وبنطال مكويّ حديثاً. عند أسفل الساقين، مقدّمة الحذاء الأسود ملتمعة ومصقولة، اليدان اللتان تبدوان سمراوين، كانتا مضمومتين على مستوى الحزام. ولا يوجد تنفس يأرجحهما على إيقاعه.

عندما غادرته، كان لا يزال حيّاً، لكنه ميّت الآن. كان هنا، كنت هنا. أحاول العثور عن الفرق، فيزيائياً، بين جسد نائم وجثمان. كان ثمّة بالتأكيد الأيدي المتشابكة على البطن. كنت متيقّناً أنني مهما أمعنتُ النظر، سيظلّان بلا حراك. غيّرتُ من مكاني قليلاً. في الأول كنت أقف من جهة الرأس. يمكنني الآن قياس الطول. هل كان مجرّد انطباع أم أنّ والدي صار أقصر فعلاً؟


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جدارية معقّدة
تتناول رواية "عمارة الأزمنة غير المستقرّة" (2015)، التي ترجمنا منها هذا المقتطف، سيرةَ عدّة أجيال من عائلة من أصلٍ إيطالي مشتّتة في لوكسمبورغ والعالم؛ حيثُ يشكّل تاريخها السرّي مدخلاً إلى متاهات الجغرافيا السياسية في أوروبا والعالم، بدءاً من الحرب العالمية الأولى إلى ما بعد سقوط جدار برلين. إنها "جدارية معقّدة من القرن العشرين غير المستقرّ الذي أفضى إلى حاضر مماثل"، بتعبير لجنة تحكيم "جائزة سيرفي" التي حازتها في 2016.


* كاتب وشاعر لوكسومبورغي

** ترجمة من الفرنسية ميشرافي عبد الودود

المساهمون