رجلٌ وامرأة

رجلٌ وامرأة

02 نوفمبر 2019
(مقطع من عمل لمارتن أسيغ)
+ الخط -

توجّه إلى سكرتيرة الطبيب وقال: "عفواً... أنا هنا منذ أكثر من ساعة والطبيب لم يأت. وأنت تقولين إنه سيحضر بين دقيقة وأخرى". ردّت السكرتيرة: "أنا مستغربة أيضاً. اتصلت به عدة مرات ولم ألق رداً". ثم ما لبثت مريضة، جاءت بعدي، أن سألت: "هل لي أن أعرف إن كان علينا الانتظار أم المغادرة؟".

اتصلت السكرتيرة مرة أخرى. وبملامح غامضة أكثر منها حزينة، قالت: "آسفة، يمكنكما المغادرة، فالطبيب الآن في المستشفى. تعرض إلى حادث سير".

نظرت إليَّ المريضة وقالت: "هل هذه أول مرة أنت هنا؟". قلتُ: "نعم"، قالت: "أنا أزور العيادة مرة كل أسبوع منذ سبعة شهور تقريباً. إنه أفضل طبيب نفسي في المدينة".

- سمعتُ أيضاً أنه طبيب جيّد.

- نعم. أتمنّى ألا يصيبه مكروه.

خرجنا من العيادة معاً. يبدو أنها تعاني من مشاكل نفسية حادة، وإلا ما الذي يجعلها تدعوني إلى مقهى قريب وتسألني أسئلة غريبة متوهّمة أنها دكتورة؟ ويبدو أن الضجر والفضول هما ما جعلني أقبل دعوتها.

- متزوج؟

ـ لا

- لماذا؟

ـ ربما كي لا أفقد علاقتي الفنتازية بالتفكير في الموت.

- هل تفكر فيه كثيراً؟

ـ نعم كثيراً.

- هل تعاني من الاكتئاب؟

ـ عرّفي لي الاكتئاب أوّلاً. وحينها أحدّد، لكن أظنّني نصف مكتئب مثلك.

تجهّمَت قليلاً. وبعد لحظات ابتسمت:

ـ هل تظن أن العالم يسيء فهمك؟

- أظن أن المكتئب يتراءى له أن العالم لا يفهمه. لكنك تتّفقين معي أن إساءة الفهم متبادلة.

ـ هل لديك أصدقاء؟

- كان عندي أصدقاء غير مرئيين، وأعتقد أنهم اﻵن أصبحوا أعداء غير مرئيين.

ـ لم أفهم ماذا تقصد.

- لا شي... إنها فذلكة... أقصد ضجري من نفسي وأنا معهم، لهذا انكفأت عن الجميع.

- لكنك من حين إلى آخر تشتاق إلى صحبة أشخاص يشاركونك ما تفكر فيه.

- أحياناً قليلة. ومؤخراً قلما ألتقي بأحد. أحب أن أضيع وقتي بطرق ألطف.

- لكن... لمَ جئت إلى العيادة؟ من الواضح أنك تحتاج إلى مساعدة؟

- هناك من أرسلني وقال إنه محلّل نفسي جيد.

- فعلاً هو كذلك. استفدتُ من زيارته كثيراَ.

- عفواً، لكن يجدر أن تشكري من أرسلني.

- كم عمرك؟ أحدس أنك في السابعة والثلاثين أو الثامنة والثلاثين ولا تعمل، كيف تتدبّر أمور عيشك؟

لم أصحّح لها، بل مدحت قدرتها على التخمين.

- أحدهم يفعل ذلك.

ـ من؟

- امرأة

- هل تعيش معها؟

- أعيش في قبو بيتها.

- ما علاقتك بها وكيف تعرّفت عليها؟

ـ إنها قصة طويلة.

- أتمنى أن أسمع قصتك.

ـ ربما سأحكيها لك في مرّات قادمة.

ـ حسناً... هذا يعني أننا سنلتقي مرّة أخرى.

ـ نعم، ما الذي يجعلك تظنين أني لن...

ـ فقط لأتأكد.

- معك حق، ربما لن أتمكّن من المجيء سوى مرة واحدة، لا أريد لصديقتي العجوز أن تتكفّل بمصاريف إضافية.

ـ آه... هي عجوز إذن.

ـ لا لسبب ما أنا أسمّيها عجوزاً.

ـ اسمع. بهذه الطريقة لن تساعد الدكتور ولن تساعد نفسك، عليك أن تقول كل ما يخطر ببالك، أنت تقطّر أقوالك ظاناً أنك أكثر ذكاء من الآخرين. أقول هذا بعد خبرة.

ـ لا علم لي كيف يتحدث المرضى والدكاترة النفسيون، ويبدو لي أنه كان من الأجدى ألا أعرف.

واضح أنك شخص عصابي، هكذا تغيّرت نبرات صوتها لتبدو عدائية، ثم سألتْ: ما هي مشكلتك ولماذا أتيت إلى العيادة؟

ـ صديقتي... العجوز طلبت مني.

ـ يعني أنت لا تشعر أنك بحاجة إلى مساعدة أو استشارة أو للتحدث مع أحد!

ـ لا أنا بحاجة لكل ما ذكرته.

- طيب... ما هي الأعمال التي زاولتها في حياتك وماذا درست؟

قلت في نفسي: سأُفرح هذه المرأة المريضة وأساعدها على تصديق دورها. تبدو اللعبة مسلّية:

- غادرت الجامعة وعملت في مهن متفرّقة لفترات قصيرة. مطعم، محل أحذية، مصنع خشب.

- وشعرت أنها أعمال لا تناسبك!

ـ لا … ليس تماماً.

- كيف تقضي أوقاتك؟ ثم لماذا تضحك؟

- لا أفعل شيئاً... ههههه...

- ليس هناك من أحد لا يفعل شيئاً.

- أنا لا أحد.

- هل تظن أنك تعرف نفسك وهل يهمك معرفة حقيقة نفسك؟

-لا، أنا أكثر من نفسي وأقل منها... لا تعنيني كلمة الحقيقة ولا أحبها، وعدم انتباهي لها، أظنّ أنه يخدمها أكثر ممّن يدعون امتلاكها.

ـ حسناً… تعال في الأسبوع القادم، ولا داعي لتقلق بشأن كلفة الجلسة، أنا سأدفع الكلفة.

ـ شكراً، لا أظن أني سأعود.

ـ ستعود. وأعتذر لأنه ينبغي أن أغادر الآن، دعنا نتبادل أرقام التلفون. كنت أتمنّى أن أقضي مزيداً من الوقت معك.


المرأة

أعرف بل أكاد أجزم أنه لن يأتي الأسبوع القادم، رغم رغبته الشديدة بالمجيء. أنا لن أعمل ضد رغبتي، سأتصل به. حقيقة أود مساعدته كما عليّ أن أعترف أنني أحتاج إلى مريض استثنائي مثله يشيلني من رتابة المختلّفين المتشابهين. لا. من الأفضل أن أتناساه، سيمنعه كبرياؤه من المجيء، أعرف أنني أهنته عندما اعتبرته مريضاً، أو ربما سيأتي. أراهن على ما تبقّى لديه من فضول أو على اﻷقل أراهن على ضجره.


الرجل

لماذا أكابر هكذا؟ من الواضح أن لديها رغبة في التحدّث معي وانتباهها لاختلافي عن الآخرين يعكس اختلافها هي، ويعني أننا يمكن أن نتحاور. أو لأقل إنها لعبة مسلّية، وعليّ أن أعترف أنني أحتاج أن أخرج من عزلتي. لكن لا، سأنتظر هاتفاً منها، وإذا ما اتصلت لن يكون الأمر سيئاً، بل ليتها تتصل.


الراوي

كان يمكنهما أن يتحاورا إلى ما ليس له نهاية، كأصدقاء أو كغريبين يحتاجان إلى بعضهما. بقي كل منها في مكانه تاركين البطولة لعالم قاس، مضيّعين احتمال أوقات ممتعة.


الراوي مرّةً أخرى

لا... المرأة اتصلت كثيراً. لكن الرجل لم يرد ويبدو أنه لن... يبدو أنه فعل ما كان قد عزم على القيام به منذ خمسة عشر عاماً.


* كاتب سوري مقيم في نيويورك

المساهمون