جاري الأميركي و"روبن هود" ومشاعري المختلطة

جاري الأميركي و"روبن هود" ومشاعري المختلطة

27 يناير 2019
نينا شانيل آبني/ الولايات الأميركية
+ الخط -

يمكن لموقف عرضي ما، أن يقيم مباراة حامية لكرة الطاولة في عقل المرء، فتقرقع الأفكار في رأسه يمنة ويسرة، بين خير وشر، وتطرّف واعتدال، قبل أن يستقر على قول فصل.

صباح الأحد المنصرم، أرسل جاري الأميركي "الأبيض" اليميني على مجموعة "الواتس آب" الخاصة بسكان الحي، رسالة تقول "بكل أسى، نجح قرصان رقمي في الاحتيال عليّ. استعمل القرصان بطاقتي الائتمانية لأغراضه الخاصة، وأرسل إلي "فوق البيعة" نسخة من القرآن، اشتراها من خلال حساب جديد فتحه باسمي على موقع "أمازون"، كرسالة "شكر" لإنفاقه من مالي. إن رغب أي من الجيران في الحصول على مصحف جديد، فسأهديهم ما وصلني بكل سرور".

وأول ما ابتدرت به الحادثة هو الضحك منها. لا شك أن الدنيا لا زالت بخير، ما دام هناك لصوص يحبون إمتاع الضحايا بمثل هذه الطُّرف المدهشة. لكن سرعان ما ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، فتلبّسني قناع شخصية قيادية مسلمة "مثالية"، ورحت أكتب "أنا آسف لما حلّ بك يا "جون" وأحب أن أعوضك، وأشتري منك المصحف بعشرة أَضعاف ثمنه". وكدت أغرق في بحر الشاعرية والروحانية اللتين تفجرتا من ثنايا موقفي الخيالي النبيل جداً، وأوشكت أن أزيد فأرفع قيمة تعويض "جون"؛ فآمر له ببعير أحمله بالغالي والنفيس من أمازون؛ هذا لئلا يقال أن موحِّداً قد غدر بكتابيّ في فيافي الإنترنت، والغياهب الرقمية.

لكن من حسن حظي أن لي شيطاناً فكرياً، يتحلّى بقدرات فائقة في نقض ما لا يروق له من آراء ومذاهب. هو لا يخرج علي معترضاً بأسلوب فجّ مكشوف، بل يطلق العنان لأفكاري استطراداً وتمادياً، نحو القيم القصوى للسذاجة، لأنتبه وحدي، أخيراً، من غفلة الدراما الرفيعة التي تدور أحداثها في رأسي، فأعود عن تلك الأفكار الخرقاء. وهكذا، أوحى إلي هذا الخبيث أنه "يجب بعد إرسال البعير، أن تقيم وقفة صامتة بالشموع، لتقول إن ما حدث ليس من الإسلام في شيء، وأن الإسلام دين المحبة". هنا فقط انتبهت من خبلتي الفكرية، ومسحت النص قبل أن أرسله.

ثم انتقلت، تحت وطأة الشعور بالسخف من الخيال الذي سلف، إلى الموقف المناقض، ورحت أتساءل: أي شيء أراده هذا الجار بإرسال رسالته صباح يوم العطلة؟ الجميع سيقرأ الرسالة! لماذا يهتم بإشراك الجيران بكل هذه التفاصيل؟ حتى يفهم القارئ خارج أميركا، فإن جرائم إلكترونية كهذه، على نكدها وعلاتها، باتت شيئاً من واقع الحياة الأليم؛ لكن العادي والمحتمل، وتقوم الشركات بتعويض الزبائن عن خسائرهم دون مشقة تذكر، لأن الحكومة والشركات جميعاً، قد خسرت حرب حماية المعلومات الخاصة بالجمهور خسارة مبرمة.

وهكذا زادت مشاعري حدّة، وتخيلتني أكتب رسالة إلى الجار "أتذكُر حين اشتريت من وكالتك "بوليصة" التأمين للبيت والسيارة؟ أتذكر أنني امتدحت رخص سعر الخدمة عندكم وجودتها؟" ثم رأيتني أقول له بعبارة أميركية الجرس "جون، كان على قائمة زبائنك عميل مسلم، لكن ليس بعد الآن". ثم تدخل شيطاني الآنف ذكره، وحرّضني بنسبي العباسي، من جهة أن اسمي "هارون الرشيد، وزين لي أن أكتب نصاً مفاده: "من هارون الرشيد إلى جون علج الروم في شمال تكساس: أما بعد، فإما أن تمسحن ما كتبت أو لأبعثن لك بجيش أوله عندك وآخره عندي".

مرة أخرى ربح شيطاني الفكري الرهان، وأوصلني إلى إدراك سخْف ما دار في رأسي وصرفني عنه (بالنسبة إلى الجيش الذي أوله عند الجار وآخره عندي: فضلاً عن أنني أشك في قدرتي على جمع "قردين وحارس"، وعن أن "مزحة" كهذه كان من المعقول أن تذهب بي إلى "غوانتانامو"، فإن هذا التهديد يبدو متواضعاً حين ننزله في ظرفنا الموضعي، لأن "جون" يسكن على بعد بيتين اثنين فقط من داري).

وبعد هزيمة خطاب التطرف – في شكليه المفرط في الحب الأبله والكره المرير – أطل خطاب الود، لكن معتدلاً ومتزناً هذه المرة "امنح الرجل فرصة يا هارون. لعل الرجل أراد فعلاً أن يجامل جاراً مسلماً بمصحف، ولعله أراد أن يكسب زبوناً إضافياً. ومن يدري، لعله يريد أن يهديك الكتاب، أو أنه ظن أن جارنا الهندي "سريدار" هو مسلم أيضاً. فالرجل أميركي أبيض ولا يعرف شيئاً عن العالم". ثم جاءت كرّة البغض والتشكك – هذه المرة بقدر ودقة – فرحت أتساءل "لكن جون يميني أميركي محافظ، ورسالته – وإن أظهرت وداً معلناً – فإنها تستبطن بغضاً في الإسلام، والقرآن. ألم يسعه أن يراسلني و"سريدار" دون باقي القوم ليعرض المصحف علينا؟".

وبعد جولات الـ "بنغ بونغ" هذه، أطل العقل الواقعي وحسم النقاش: لن ترسل يا هارون رسالة ولن تعلّق. لا أحد يعرف صدق قصة جون هذه من كذبها، ولا صدق القرصان من كذبه، ولست مسؤولاً أبداً عن سلوك أي مسلم آخر ليس اسمه هارون، ولا تسكن ذاته في الجسد الذي يحمل رأسي.

وإن كان "روبن هود" التوحيد قد أساء لصورة الإسلام – بحجم مساهمته العددية في نفوس الأمة بواقع 1 إلى 1.9 مليار مسلم - فإن في القصة جانباً مشرقاً: ها هم الصعاليك الرقميون من المسلمين، يحذون حذو رفاق المهنة من لصوص العالم الغربي، فيمارسون الجرائم الحداثية، والقرصنة الإلكترونية، ويفعلون ما يفعله أشرار آخرون من الملاحدة والهندوس والبوذيين، والمسيحيين الأرثوذوكس – أو أياً ما كانت ديانة قراصنة الإنترنت الروس والأوكرانيين – والبروتستانت والكاثوليك واليهود (سواء في أميركا أو في الكيان الصهيوني) وهذا لعمري فضل عظيم، وفتح من الفتوح، إذا ما قيس بالاشتغال بالإرهاب، أو بالتناحر المذهبي.

سكان الحي على مجموعة "الواتس آب" التزموا الصمت هم أيضاً. بعضهم لطيف وودود، وبعضهم دون ذلك، وبعضهم بلا ريب عنصري وكاره، وصوّت في الانتخابات لترامب والسيناتور البغيض تيد كروز، لكن الواقعية العاقلة ربحت عند الجميع؛ فاحتفظ الجميع بمشاعرهم لأنفسهم، خصوصاً أن أحداً لا يستطيع أن يسيطر على نتيجة أي تفاعل إنترنتي يبدأه؛ فالإنترنت لا تنسى ولا تغفر، وعفاريتها لا تخضع لحسابات المحضِّرين.

ثم شقت حجب الصمت إحدى سيدات الحي، برسالة تعكس بعضاً من القيم الأميركية الأصيلة، فقالت "رغم أنني لست سعيدة لقول ذلك، لكن لعل ما أذيع عن عودة ذئاب "القيوط" إلى المنطقة يساعد في التحكم في عدد الأرانب البرية. فحتى الآن كنا مترددين في زراعة الورود في حديقة المنزل، بسبب هجمات الأرانب المتكررة على النباتات الأخرى فيها".

ألم تكن هذه أحوج للمصحف من جون، يا شيخ "روبن هود"؟


* وضع الجار "جون" لوحة دعائية عند بيته - وقت عطلة عيد الميلاد ونهاية العام – تقول إن المسيح هو علّة هذا الموسم. هذه العبارة تبدو بريئة ومحقة في ظاهرها، لكن هناك سياق خاص لترديدها في أوساط بعض الأميركيين – من اليمين المحافظ في ولايات الجنوب – وهي تشير إلى مظلومية مدعاة، مفادها أن المسيحية مضطهدة ومغيبة في أميركا – لحد أنه يعمى على الاحتفاء بعيد الميلاد! الأمر الذي هو أبعد ما يكون عن الحقيقة والموضوعية.

** كاتب فلسطيني مقيم في أميركا

دلالات

المساهمون