الهدية

الهدية

12 سبتمبر 2018
محمد عمر خليل/ السودان
+ الخط -

انتهى النهار وخيّم الليل على المزرعة، وبدأ القمر يصعد. صوت الصرّار وحده مؤنس. حصدنا مربّعاً من حقل القمح ثم كنسنا المكان وفرشنا حصيراً من سعف النخيل، وضعنا ثوباً بيننا وضوء القمر ونمنا.

في عز النوم أيقظتَني، وقلتَ إنك اشتهيتَ عنباً. في البداية حنقت لكن شغلكَ طول النهار الحار وجرحك لأصبعك جعلني أفكر. ومن أين آتي لك بالعنب في عز الليل؟

وراءنا فضاء مسوّر سمّي بستانا ذات يوم، منه تنبح قبيلة كلاب نأمرها بالسكوت ولا تستجيب.

من أين تأتي الكلاب بكل هذه القوة؟ ومن أين تأتي الشهوة التي توقظ الناس في عز النوم سألت نفسي. لا بد أن الطبيعة أقوى من كل شيء.

لما علا القمر ومحا ضوء النجوم جلسنا وأقسمت أن أذهب إلى صاحب الدكان عند منتصف الساقية أبتاع له العنب والدخان.

وأنا في الطريق تساءلت عن الغموض الذي يتلبس العلاقات الحقيقية هل مفتعل أم حقيقي؟ لماذا الرفقة الصادقة يعتورها الشك؟

أحببته حتى قبل أن أراه، سمعت عنه أنه صدوق وبشوش ويدافع عن مصالح الناس، لكنه مزاجيٌّ أحياناً.

لست أنا الذي بحثت عنه، هو الذي جاء إليّ لما قيل له إني نجحت في امتحان ما لم أعد أذكره. يومها أحضر معه سلّة فواكه وأخبرني أنه يحب المتعلمين ويريد أن يستمع إليهم وأن يحدثوه عن قراءاتهم. لأمر ما لم أعره أي اهتمام. وكذلك في اللقاء الثاني لما جمعتنا مائدة عشاء، كان هادئاً ولم يتحدث كثيراً وتساءلت لماذا ينعته الناس بالحدّة وهو بمثل ذلك الهدوء ذلك المساء. سألني وبكلام خافت: هل أعجبك البرقوق؟ ابتسمت وقلت له نعم.

وتوالت اللقاءات التي فهمت منها أنه يريد أن يبوح لي بشيء لكن أموراً ما تمنعه عن ذلك، وتركته على سجيته حتى كان ذلك النهار. كنت قد رجعت من عملي أسرع الخطى لأن شيئاً ما ينتظرني. سمعت اسمي ينادى به من خلف وتوقفت. إنه هو بطلعته البهية وبيده كتاب عن الأندلس.

- هل تأذن أن نجلس تحت الزيتونة ونقرأ شيئاً أحببت أن أتقاسمه معك؟
- مرحبا، قلت، وجلسنا.
كان يتحدث عن قرطبة وإشبيلية والمعمار والقصور والزليج والعلوم والشعر والفلسفة والقفطان والحرير والأغاني. وكنت أطعّم أفكاره بمعلومات عن المرابطين والموحدين وابن رشد وابن طفيل وابن خلدون وابن ميمون وابن زيدون وابن حزم.

- لا يهمني أنهم أضاعوا كل شيء، الذي يهمني ما الذي تبقى الآن من كل ذلك.

وتوالت اللقاءات والتقت الأرواح في كل شيء، في العفوية والصدق وحب الحياة والشعر والدفاع عن المظلومين.

كان يدهشني بمعرفته للتفاصيل والقدرة على نسيانها في آن، بقدرته على الحديث عن الكتب والقرآن والنحو، وعن السواقي وأيان نضج البلح، أو عن السوق وأثمنة الخضر والثوب.

وكثيراً ما يحيّرني بضحكة طفولية قصيرة لا تبدأ إلا لتنطفئ، أو بإقفاله ابتسامته بتكشيرة خفيفة يتبعها انشراح. كان لا يريد أن يكون عفوياً تماماً كما أنا، وهو الأمر الذي يؤاخذني عليه أحياناً بحنو لا يخلو من قسوة لطيفة بتلويح يده اليسرى في السماء.

ما الذي يذكرني بكل هذا وأنا في البيداء أبحث عمن يبيع لي عنباً؟ إنها المحبة والتقدير، وحدهما يقدران على أن أتذكره في كل وقت، وأنا في الشغل أراه يبسم لي مشجعاً على أداء مهمتي، وأنا في الوادي أو المدينة أو البحر هو دائم الحضور في الغياب. حتى جاء ذلك اليوم الذي اقترحت عليه أن نشترك في زراعة حقل زعفران وقبل تواً.

اشترينا البذور واخترنا الفدان الصغير الذي ورثته عن أبي جنب المقبرة حيث الحجرة التي يشحذ فيها الفلاحون الفؤوس. واشتغل بتنقية الأرض بعناية وحنو.

الذي أزعجنا كثيرا الحرب التي اندلعت بين أبناء العمومة، والتي بدأت لما نزلت أسرة من نفس الأرومة من أعلى الوادي وأقامت بيننا. بنوا منزلا وحفروا بئرا ووهبت لهم فدادين من الزاوية يفلحونها. غير أن أطفالهم بضفائرهم الطويلة كانوا يغيرون على النخيل ويفسدون التمر كفاكهة لم يألفوها في الجبل. لما مُنعوا من ذلك أعلنوا الحرب، وأمر كبارنا عبيدنا بإبادة أشداء القوم الجدد.

منذ ذلك اليوم حل الحزن على الزاوية والخلوة والروضة والزقاق.


* كاتب من المغرب

المساهمون