ألف سوسنة 1-2

ألف سوسنة 1-2

10 سبتمبر 2018
(عمل لـ جورج ماريو)
+ الخط -

1

دفعني الهواء إلى البكاء. أفقتُ عند قاعدة جبلٍ. لفَحَ البرد وجهي. نهض تاش وهو بكامل تيقّظه. كان على حقّ حين خطر له وجود أفاعٍ هنا. خرجتُ من حقل الزهر، ثمّ من محيط البيت، ومرّة أخرى رأيتُ الوادي الصغير ينفرش ليطلّ على سهل. كان تاش هادئاً، أمّا أنا فبكيتُ. شيءٌ ما يُشبه الدرع المعدني تجعّد في صدري. بكيتُ ووددتُ لو أعانق تاش.

ظهرَ أدْ وهو يقول إن الأحصنة الأرجوانية استنهضته. لم أستطع حماية أحد واتّجاه السهل سيكون رحباً وسْعَ السماء. كان طريق الذهاب ثلاثين ميلاً، لكن العودة أكثر من أربعين بسبب الوباء. سيعيش تاش حتى يبلغ قرابة الثلاثمائة. الآن وددتُ لو أعانق أد، الذي كان أخي.

تخلخل الأثير. لا بدّ أن أولاداً تسلّقوا جنبة الوادي الصغير المعشوشب. أصوات ألعابهم النارية لعلعت فوقنا وارتدّت على الجبال وراءنا.

تسلّق أدْ جِذْلَ شجرة ليحاول معرفة الوجهة التي تميل إليها السماء. بدا صغيراً للغاية هناك. وقد تبيّنَ أن الأصوات في الأثير كانت نيران بنادق، كان بوسع أيٍّ منها أن ترديَه عن الجِذْل. لم يكن ليستطيع أن يقي أحداً خطرَ أيّ شيء.

تأمّلتُ الريحَ في ملاطفتها الوادي تحت السماء المكشوفة، بينما أرحتُ كفيَّ على كومة تراب، عشِّ ما تَبارَكَ تحت الأرض، مكلوماً، ما قصمته الشمس، ما بقي في الباطن، كتيماً، عصيّاً عن الوجود. الراحة تبقى راحةً، إن اعتُصرتْ تبقى راحةً، لا يهم إلى أيّ مدى هي دفينة، تبقى الراحة الراحة.

وقف أدْ تحت غيمة بخمسة ألوان. كان مزيجاً من عناصرَ وحواس انجدل بعضها في الآخَر. توقّف عن أن يكون بسيطاً مذ كان رضيعاً.

كانت سترة أدْ حمراء والجِذْل بنيّاً كالتربة الخصبة. ابتلَّ النباتُ ما حولنا، حتى ليبدو بحيرة أعشاب. فوق المسحة الندية، عالياً تماهى أدْ بطريقة أو بأخرى في الأشياء البعيدة، كحشرة تُنكش بسكّين جيب، يكاد يكون في خفق ذراعيه، وفي انتفاضه وتشنّجه مثل خيط في شبكة عنكبوت. كان الجوّ مشحوناً بكثافة الزرقة من حوله.

كان تاش يتقدّم، يُلمّ أشياءنا إليه. نقاء الطويّة كالدوران. أيقن أنه لم يكن باستطاعته أن يحميَ الكلَّ من ظلامٍ مباغِت. وبين لحظة وأخرى، قد تقلّب الريحُ الورقة الأكثر اخضراراً لتكشفَ صفحة أخرى تألّقت بأنسجتها. كذلك كان تاش يتقدّم، فيومض انتباهي نحوه. فانوس يلمس الأجسام من حوله بلطف، ومع أرض متحرّكة تحت موجة، كان تاش متماسك الداخلِ. لم يعرف الغيرةَ أبداً. عليَّ أن أتبعه رغم كلّ شيء.

توهّجت بعض طيور التدرج نحاسية اللون بين الأعشاب الطويلة أمامنا بالضبط. شعلة تشقّ الزرع بلمح البصر ثم ترتفع ببطء.

ـ أهناك أشباح؟ قال أدْ وهو يقفز عن الجِذْل راجعاً إلينا، ثم نبسَ بشيء ما عن القلب الأصيل.

ثمّة في كلّ مكان من البيت وَحَوله الحمام الميت الطالع من أكتافنا المثقَلة، وصولاً إلى حقل السوسن، ثم جانب الجبل، ومرّة أخرى، ها هي تؤوب إلى أكتافنا ومناقيرها مليئة بالثرى. أردانها الناعمة تنفّخت بنسائم الهواء، نَفَسِ ما قبْلَ القبلة.

كنتُ قد شرعتُ بالسير عندما بدأتُ أصغي إلى هفيف أجنحة الفَراش الأحمر من حولنا. رأيتُ تاش يتطلّع في المدى ويبتسم لنفسه وهو يسير بنا على وقع مواصلة الطريق.

2

في الليالي التي سبقت، كانت مواصلة الطريق قد باتت أكثر عماءً. وبعد الخلاص من البحيرة، كصفيرٍ، اجتزنا الغابات الظلماء. كان أدْ قد حوّل نفسه إلى طائر سُمُّنٍ، حتى إن نقلَتَه تشابهت ونقلة الطائر. وكان بوسعي أن أراه ينقر الأشياء التي تمكّن من رؤيتها بشكل باهت. نخّلت الأشجارُ الخاوية غشاوةَ البحيرة، تلَولبَ صوته حولَنا: "غنِّ وْمِيْلْ، ابْكِ وامسحْ/ غنّ والجانح نايم. لدغة بذرة- لدغة ساق- لدغة ورقة- لدغة شجرة".

وانجلت بقية الليلِ عنّا في رفّة جفن ونحن نشقّ طريقنا عبر دغلٍ ناهض. هل الظلام الذي تستطيع لمسه دامس أكثر من ذاك العصيّ على اللمس. كنا أكثر بُعداً داخلَ أو خارجَ البقعة حيث تصبح فيها المشاعل التي نحملها ذات جدوى. بدا أن وهجَها يُقصينا. كما المعدن، بدّدْنا ضوءَها.

ألقى تاش نظرة خاطفة عليّ لحظةَ هفهفَ السّمُّن. عندما نظرتُ جانباً عقب صوتٍ آخر، تداعتِ الأرض ومضينا في السير على اللاشيء، محض فراغ تلطّخَ بالأسود. مع ذلك مضينا في السير، مضينا قاصدين وجهةً لا علاقة لنا بها. ثلاث نجمات تواشجَتْ، وقد تخلّت عن الأعلى والأسفل، عن الأمام والوراء، عن الـ داخل والـ خارجِ، إذ بات كلّ مكان شطراً غير مرئيّ.

مع ذلك بقي الإحساس بالسقوط، بالاندفاع، بالالتحام معاً، بالإبقاء على القرب من دفء الآخر. وقعنا على أطراف ضوء بَعيدٍ نثرَ بذارَه القصيّة أمامنا، وإيماناً حقّاً. وسط جهاتٍ لا حصر لها مثل الألياف كي نصوغ منها شيئاً ما، ثلاثة طيور عمياء.

عندما بلغنا أخيراً هدْب الضوء الصباحي، انتهت الغابات فجأةً، كأنها لم تعد تريد أن تكون مرئية للعيان. عند أطرافها، سألْنا الحطّابين في الأرز السامق إن كنّا قد أوشكنا على المعبَر. أومأوا وأشاروا إلى الجانب الآخر من الطين.

مستنقع شاسع ترامى أمامنا. نوشك على الطين. الطين المتعفّن الذي خدّدَ أحذيتنا آنَ بدأنا التخويض فيه. حفرة قذَرٍ لا متناهية، سبخة جافة غير مستوية امتدّت حتى الأفق، والآن هريسٌ مُغْثٍ، أبخرة كريهة تصّاعدُ من المستنقع الذي أفلتَ محتواه المقرف، تاركاً الأماكن الأكثر ظلمةً في أغوارها، كرضوض الضلوع. في داخلها ابتُلعتْ كلّ الجنبات، كما اسوداد أوراق الشجر، كثير الروث يمصّ أرجلَنا بشيء من الإلحاح، شيء من الإحكام. لا وقوف وسطَ ذلك البخار الذي ضبَّبَ الهواء ما بيننا، نستمرُّ بالتحرك كي لا نعلَق ونغوصَ وننهار بلا رحمة. ندا الجو برائحة كرائحة الكحول وخفّتْ حرارة الشمس ودلقَتْ نفسها لتمتزج بالرطوبة المتصاعدة.

كنّا الأجسامَ المصبوبةَ خلال مسيرِنا في الحرّ الذي لازمنا، في سعْيِنا للعبور على وقع إحساسنا بالحركة، وفي تنفّسنا محاذرين ألا نعبَّ كلَّ ذلك الطين، نرفع ركَبَنا ونخوّض ليس للأمام بل عبْرَ الوحل، يتحلّل مجرانا ويتهتّك بالانعطافات، كنّا سنغوص في الغَرِيْن ونفرغ رئاتنا، ليؤول لونُ دواخلنا بنيّاً أيضاً، فقد استمر ذلك القيظ المُقرِّح أكثر مما تخيَّلْنا.

ندا وقعُ القطراتُ، واحدة، ثلاثاً، ثقيلةً؛ مصابيح من ماء. أتسقَّطُها من حولي، غاب وقعُها لوهلة في ريح طفيفة ارتفعتْ كي تَذهَلَ في أطواق مُحْكَمة. استشعرتُ هَبَّةً في الجهة الوحشية من يدي اليسرى، رشقة باردة دغدغتْ أطراف وجنتيّ وذقني. لفح لمسةٍ انسدلت نحو الأسفل، امتدتْ من علامات تنقيط، وتكثّفت من فرقعة لتوحّد الإيقاعات التي ارتدّت من جديد إلى الملاءات التي كانت حوافّها كتيمةَ الصوت، ثم لتُحللَ السديم إلى لألأةٍ متموّجة.

معطف تَلَبَّسه رفيقُ دربِنا البردُ. مطر وجيز استحضرَ الشواش. كلّ القَطْرِ، كلّ العثرات. ثمّة جداول تُجري الجذورَ عبر الطبقة القديمة الواسعة والمتنقّعة حول أقدامنا في ثوانٍ. صعوبة بلوغ أي مكان بوجود هذا الانعكاس الكثيف. كيف نتبيّن الطريق ونحن وسط الانحسار الكثيف الذي تطرف له العين. أطلنا أمد الكلمات ما بيننا. والجذور ضاربةٌ في الطين، ماذا تُرانا كنّا؟

بدأ السطح المحفَّر يميد تحت المطر. زركشة حيّةٌ تمعّجتْ تحت كواحلنا مثل سويقاتٍ سوداء نبتت وتلهّفتْ للهواء. كلّ ما اتخذ شكلَ زلّةٍ انتهى بفمٍ فاغر. كما شهدَ، أصبح امتداد الطين حقلاً من الأفاعي. رفع أدْ رأسه محدّقاً في الرماديِّ فوقَنا كمن يظنّ أنها تهطل بالمطر. كان حَدُّ التقاء الرماديّ بالبنّيّ راعشاً مخضرّاً، وأحياناً كاد أن يكون ذهبياً. تاش، متّزناً حتى كأنه لم يكن يتحرّك، بدأ يخبط الأرض ضمن دائرة حولنا، يسحق الأفاعي إلى فتات ناعم أو يهتّكها تحت قدميه إلى قطع آيلة للتبدّد. لم نُباغتْ بينما ترسم حركاته المتأنّية مداراً حول تقدّمنا الوئيد.

كيف أصبحتُ شقراء. في ذهني لوحة مصغّرة لا يتوقّف طنينها. نظرة الثعلب المتصالبة، رائحة غبار الطلع، تتمايل في لوحة رُسمت بقلم الشمع وأُطّرتْ بضوء منعكس. ضوءٍ مُورق، وليس محمياً مع أننا كنا قلاعاً سيّارةً تخوض في الوحل. تاش وقلبه الفيّاض كسيا الأرض بالأفاعي وهما يضعان الأساس المستقر لإكمال مسيرنا. أدْ وأنا، هشَّان ومُحمرَّان في بؤرة سحقه الكئيب، تقدّمنا ملطَّخَين بالبنيّ، مُشرفَين في النهاية على الوميض.

كيف سيكون الأمر، لو استقمنا متوازنَين على طوّالاتِ أقدامٍ من أفاعٍ؟ فمن أين للوُريقة الخفيفة أن تُقتلَع؟ متى تصير دثاراً؟

عندما يؤول كلّ ما يتقطّرُ شعاعاً.

لم يتوقف المطر، استمر بالهطول. كنتُ لُطخةَ شيء ما ينجرّ بقوّة نحو شعاع ضوئي في كوكبتنا متعثّرةِ الخطوِ. مسافة طائرة ورقية من رؤوس أصابع أدْ المتحمّسة على مرفقي. لمسة انتفخت، أي علَتْ شيئاً ما. ثمّة تيار من ضباب خفيف انسدلَ غلائلَ على التموّجات. تتبَّع تاش التخوم، السواتر الترابية، سوّرَنا داخلها. غاصت العوارض الخشبية في الوحل، استطالت سوق النبات لكنها لم تتحوّل أبداً إلى أشجار، تشعّبت فقط كي تصبح كالمتاريس.

انشحنت الحرارة في الحيّز المغشى حولنا فأزهرتِ المدى مكلّلاً بالضوء. متمدّداً ومتشعّباً، جاهزاً للتبرعم، نزَّ الدفء من عمودي الفقري ودفّتيّ كتفي، وغذّتْ وظيفة الجذع بأجنحة مهولة. مساحات، في المساحات التي تطعّمت بالرصاص، لونتْ تُويجات الزجاج، ومشعشعةً تُشرق، وترتعش.

ثم، على حين غرّة، طغتْ أجنحتي على كلّ شيء. الحرارة تطوّعني، تنتثر في الخارج، فتحتُ أضلعي، موسّعةً ما بينها، جزءاً بعد جزء، حتى الساقين. برتقاليّاً ومصهوراً، نحُلَ جسدي في وسطه حتى كاد ينفرط إلى قطيرات. رأيتُني لوحةَ طين، صورةَ ضوء فوق الطين المليء بالأفاعي لأملأ جسدي بهذا الطين، أصبح شقراء في الخلية الدافئة العذبة التي صنعها تاش من أجلنا في المستنقع. لم نكن نمشي، كنتُ أتطاول باتجاه حافات الطين.

أبقتنا حرارة ذلك النمو مُكْتفين، ومفعمين بالحياة. كي نحتفظ بالحرارة معسَّلة، زاهين وخصبين، بين الفكّين. كي نرى بواسطته الأفاعي التي هي الآن مجرّد عيدان يابسة، حجبتِ الأَسْدِيَةَ، تورّمت كسراتها المسحوقة إلى درنات. حينها أدركتُ أنني أعاني نوعاً من الحمى، ذلك أن لمسة تاش كانت تعني ذلك، وكانت اللمسة علَيَّ، رقاقةً ضغطت على جسم كي تصوغَ جلداً جديداً لها، فتمنح شمساً للجلد.

كان انعكاسُ قوس قزح على سطوح الحصى الضوءَ الذي انعكسَ عن الأجنحة المنفرشة للحمّى. رأيتُ ثمّة نوافذَ في الطين. في التطواف، استمالتني أعماقها الشفيفة نحوها. مع ذلك، فإن أصول رؤوس أصابع أدْ قد انحفرت عميقاً في ذراعي وكتفي، راسخةً. أو كان الأمر برمّته مجرّدَ مسيرٍ عسير. كانت ساقاي المرتعشتان هما الستائر التي تتهادى من النوافذِ على سطح المستنقع. مجرّد ماء، مجرد سُمٍّ شحيح، أن ترى ذلك. قُلها تصدقْها. حاولتُ دسَّ أصابعي بين حرف الباب وإطاره. كلّ شيء انفتح للأعلى. بين أرضٍ صميمةٍ وصورةٍ متوقَّعة.

شِراكٌ فوق شقشقة الضوء الذي تفتّحَ في أعالي نومٍ حميم. حناجر فوق ألسنة، خَتْم أبواقٍ حتى لتنقضّ مئاتٌ من مخالب الطير تحاول اختطاف أغنياتِها من الحناجر. رفَعَني تاش فأدركتُ أنني كنتُ شاسعةً وممتدةً في الأرض الرطبة. تطلّعتُ إلى الأعلى ومرّة أخرى تحسستُ أجنحتي. بقي أد في الجوار. كنا نتحدّث. كنا نمشي. رأيتُ كرسياً خشبياً قائماً في الطين. سعير اللمسةِ برعمٌ. كرسي خشبي هو بطريقة ما في وسط الطين، والحمّى تلفّه من كلّ حدب وصوب.

* Mario Angel Quintero شاعر وكاتب قصة كولومبي من مواليد 1964، تُمثّل تجربته التيار الجديد للكتابة في بلده والنص مقطع من روايته  CLOSER

** ترجمة أحمد م. أحمد

المساهمون