فضفضة في موضعها

فضفضة في موضعها

06 يونيو 2018
(تمثال لماركس في ترير،ألمانيا، مايو 2018، تصوير: هارالد تيتل)
+ الخط -

قال إن ماركس ميكانيكي العالم، وأنا أبهجني هذا الاكتشاف. لكنه عاد وأفصح: أقصد نصوصه ميكانيكية، فكظمت رغبة كنت على وشك تنفيذها، بإرساله إلى جارنا الميكانيكي أبو العبد، كي يُغيّر له فيُوزاته الضاربة.

وعلاوة على ذلك، فقد بدأت ألاحظ أن "الاستهلاك"، في غير برشلونة، طفقَ يستكرد الطبقات العاملة غير البرشلونية، على نحو غير مُذْوِق، بل قُل: عديم الرحمة.

فالأولاد يطلبون من آبائهم ما ليس في اليد، ولا حتى في اليد الأخرى التي نادراً ما تجيء فتلوّح أو ترفرف في المنامات. ويمكن تلخيصها ـ تلك اليد ـ بغايتها الكبرى: العثور على كنز تحت مصطبة قديمة لبيت مهجور. لكن ذلك لا يحدث إلا في الروايات.

وبناءً عليه، فإني أعمل منذ سنة تقريباً (12 ساعة يومياً، 6 أيام أسبوعياً، قافلاً عليّ باب غرفتي، كي لا أسمع لسان مُساكنتي الغاليثي)، أعمل على استكشاف وتعميق إرث المرحوم طيب الذكر، في وعيي وحساباتي قصيرة الأمد وطويلته.

ولماذا يعني؟ كي أضع، قبل ما أضيع، بضعة كوابح على طريق التغيير الاجتماعي نحو الأسوأ: الاغتراب، التبعية للكبار، وتعديل الوعي المثالي لدى الطفل بإفهامه أن الأشياء المفضلة، غير قابلة للتحقيق السريع أو المتوسط. فالظروف الموضوعية ـ حتى دون تحليلها ـ تحول دون "الفخفخة الكذابة أو نقيضتها غير الكذابة"، كما كتبَ كادحٌ نسيت اسمه من عصر البورنز.

لقد انتهى الجدال الشائع بين عشرة أجيال حول: "مع أو ضد ماركس؟"، إلى الحنين لزمنه وتنظيراته التي ثبت عمقُها وراهنيّتها وعلميّتها.
والكل يُجمع اللحظة على أن المغفور له كان من ذوي التأثير اللاحق.
وأن ما كتبه لها علاقة وطيدة لا تنفصم ـ مثل الفنون عموماً ـ بالمستقبل الدنيوي.

وأننا سنعود، كلما دق الكوز بالجرة، إلى توقيعه، ماركس أعني. فهذا الأسبوع كان لدينا عدة أمثلة توضيحية، غير مطروقة على شبكة الإنترنت، عن تأثير الاستهلاك المتزايد، على تفكير وسلوك البشر، حيث يقتل أجمل ما فيهم، دون إيجاد بدائل مقبولة.

أمشي في شوارع غير شوارع برشلونة، ويضربني الخاطر: لن ينصلح الحال ولن يكون "شليش نازل ع الغرّة" أو "تعويج طاقية"، إلا بتحويل حشود العابرين الذين أمشي بينهم الآن في الرمبلا، إلى "سجناء سياسيين".

حينها ثمة أمل من النوع الراديكالي والمفصلي بـ"الغد الأفضل"، وترجمة هذا المصطلح إلى الإسبانية تعني بالضبط: الانقلاب على لصوص العالم في كل العواصم، وإعادة الكوكب المسروق إلى أصحابه الأصليين: أي مملكة النبات ومملكة الحيوان ومملكة الفقراء العظمى ولكنْ غير العظيمة في سياقنا.

غير هيك لا ينفع. غير هيك مش صحيح. ولندع الآن ما تقوله أوروبا الغربية وأميركا الشمالية عبر صحافة القارتين الشمطاء ومراكز أبحاثها المصنوعة من مادة الحيزبون.

إن النقاش حول الحدود المثالية لحرية الحصول على رغيف محترم، لهو نقاش يصعب حلّه، من بين ضرورات أخرى، لأننا جميعاً تقريباً ننساق لإغراء تفضيل خبز القمح على خبز الشعير والذرة.

وهذا ليس من ضمن محفوظات "الغباء الذي لنا"، كما قال أحدهم، نقلاً عن أحدهم، بل هو عين الحقيقة.
ومع ذلك، ينبغي لنا قبل أن نتابع هذه السطور أن نسأل أنفسنا إن كان ثمة من حدود تعمل بين المسائل أم لا؟

فما عاد من المجدي أن نتباسط وننادي الرأسمالية بهذا النداء الرغبوي: "دينيرو، إِي ماس دينيرو": أيتها الديكتاتورية العظيمة، ولا إمبراطورية الرومان وآل عثمان.
صحيح أن لدينا حرية التعبير لننادي: مصاري وكمان مصاري، ولكن من يضمن لنا أن ترد الجواب؟

وصحيح أن لدينا درجة من حرية التعبير، تؤهلنا لِنتهكّم بالكاريكاتير، وبما يكفي كي نفشّ اليسير من غِلّنا، إنما (برضو) لا فائدة من هكذا مُدْخلات ومدَاخلات. كما لا جدوى من تكرار المشي على قضبان الشرفة، أو داخل القبو، من أجل سماع وتكرار سماع حشرجة الدولة الاستبدادية، قاتلة حرية التعبير، وتاركتها دون موت.
فالحكاية طويلة، أطول مما نتصوّر يا إخوان.

إن انسحاب هؤلاء "السجناء السياسيين" (المحلوم بهم والمرغوب أن يكونوا كذلك) من المشهد، لهو أبو أسباب التدهور والتوحش. فإذا كان ـ كما نُقِل عن خبراء في علْم الصوتيات ـ أن البارىء لا يسمع من ساكت، فكيف ستسمع الرأسمالية وهي الطرشاء، إلا من غاضبٍ وحبذا لو كان مسلّحاً؟

أما بالنسبة إلى نشطاء "الأسوأ"، من عيّنة هذا وذاك وبينهما فوكوياما: هؤلاء الساعون بين المرء وأخيه وأمه وأبيه، فكلما سجنّاهم وقلّصنا بروتينَهم الحيواني، كان ذلك أفضل للبشرية المعاصرة ولمستقبل الشعْر أيضاً.

ولا أظن أننا بحاجة إلى ظهور هاشتاغ جديد مثل: "لا توجد في الرأسمالية حرية تعبير، بما يتناسب مع مجتمع ديمقراطي". فهذا ليس من ماركة "وجدتها، وجدتها"، تبعة أخينا إيّاه. لمَ؟ لأنه قائم ومتراكم كأكوام القمامة، على قارعة أي طريق في العالم الثالث.

هذه هي إذاً نجمة شعار لحظتنا غير المباركة، التي نرجو أن تُعمّم من خلال شبكات التواصل الاجتماعي مع رفدها بملايين اللايكات.

فالآن وبعد أن هيمن الجمود على الانتعاش الاقتصادي المزعوم، وفرّ المرء من صاحبته وبنيه (ولكم أن تتخيّلوا ما حدثَ بين الجدران، قبل الفرار)، يبدو أنه لا مناص من نسف الفعالية الكارثية لتقنيي صندوق النقد والبنك الدوليين، وشجب قضية التعويض الإيهامي عن طريق ضخ الفالصو.

إننا على أهبة الاستعداد ـمع أعراض الإرهاق والمللـ كي نلغي مكانة الموضة ونستبدلها بالنزوع الانقلابي البنّاء والمُنتج.

فقد حصل في الساعات الماضية مقارنة التابعة أوروبا مع الشريرة واشنطن، وتوصلنا إلى هذا الاستنتاج: كلتاهما فردة حذاء غير قابلة للإصلاح.

ولا نودّ في السياق أن نستشهد بأقوال مؤثرة لأنها مأثورة، لتعضيد وجهة نظرنا، سواء من أناركيين أو فرانكفورتيين، أو تروتسكيين، أو شيوعيين كلاسيك أقحاح، مثل جارنا ميغيل آنخل من حقبة الأبيض والأسود.

وإن كنا نعتقد ـ لا ضير في هذا ـ أنه من الضروري مراقبة درجة حرارة الجو وتأثيرها على عقول الناس، وخصوصاً عندما تكون فوق الأربعين. إضافةً إلى إزالة إرث كبار منظري المال، بأستيكة مصرية، واستئناف العمل من جديد مع فالتر بنيامين وهادي العلوي، أدورنو ومهدي عامل، من أجل أن تشرق الشمس على عبيد الكوكب وصعايدة مصر ومستوري النيبال.

وقبل أن نطوي هذه الفضفضة السريعة نودّ أن نختم بنصف استبصار: مع الأنترنت، مضى زمن إنقاذ النصوص من اللصوص. أو العكس.

المساهمون