الدخان الذي يرسم الغيوم

الدخان الذي يرسم الغيوم

29 يونيو 2018
محمد نظام/ عُمان
+ الخط -

سُلَّمٌ عنيد في صدغ الأبدية
إلى محمد الحارثي

-1-
بعيداً من هنا
كي تخفق الراية التي في القلب
كي تتقوّى قوادمُ الذئابِ القمريةِ
ساحبة عربة الولع إلى لا منتهى
كي ينبثق سُلَّمٌ عنيد
في صدغ الأبدية

■ ■ ■

بعيداً من هنا
كي تثغو الخراف في المرج
دون عصا الراعي الثخينة
دون كلبٍ يحرس القطيع

■ ■ ■

بعيداً من هنا
كي تصهل الأحصنة خارج الإسطبل
كي يكتب البوم حكمته الضالّة/ المجدِّفة
على بوابات المدن
على مباهج الأقواس

-2-
صار لك بيت الآن
مثل مارينا تيسفيتاييفا،
صار لك سقف
كتلك القباب العالية
التي تخفر ألماس الشاعر،
صار لك وجه بلّوريٌّ
لا يفسده بعد الآن
قاطع طريق
أو شمس رائجة في الأسواق

-3-
قُرِع جرسُ النأيِ الخافتُ
دلفت الأعيادُ أعشاشها
كان ثمة حشرة باهتة على سطح النافذة
تتأملني
كان ثمة صباحٌ باكرٌ
يرميني بوردة تبتسم وتنتحب في آنٍ واحد
كان ثمة خَدَرٌ يتقاتل في ساقيَّ
يدلني إلى النهر
كان ثمة ظلالٌ واجمةٌ
تتمرأى
في حَجَر الماء

-4-
ماتزال تفتك بالليل؛ لأن كأسك أشواق وحَبَبٌ وأرخبيلاتٌ وخرائط كنز. تظللك سحابة مازحة، بدخان مشتبك الألوان، وكي لا تتحول الحانة إلى قِدْر مضغوطٍ: يتوجب على الندلة أن يُهرعوا، بياقاتهم وبذلاتهم الأنيقة وسواعدهم الفتية، ليفتحوا مصاريع النوافذ والأبواب.
ها هم انتهوا من العمل المحتّم، غير مدركين أن للقصة بقية، وأنّ عدوى ضحكاتك- مثل مائدة شتائية ماكرة تهرِّبها نيران الليل والروائح النبيلة - تسري في عضل المدن الخائرة/ المتخثرة.
ها هي ذي الطرقات ترتجُّ بسخرية ماجنة لك من قرن غابر، أنتَ الممسك بقرون ثيران الحكاية المتحفزة الآن لأيّ قماشة تتحرك، لأيّ غبار يتضوّر حنيناً وجوعاً، حتّى أنني وجدتُ، أنا القادم من زاوية أخرى، من ناحية البحر، أن شيئاً يندلق أمامي، على صورة وعلٍ محنَّطٍ يكز بأسنانه على الفنتازيا، أو على هيئة لحظةٍ لا يمكن لها أن تَهْرُب، وقد تحولتْ خطافاً معدنياً، شاحذ البصيرة، لا يهمه اصطياد أية سمكة، لا في القرن الهالك، أو في العصر التالف، أنتَ الواقف هناك، متسائلا عن جدوى الأسماك وعن معناها، فليست هي حتماً للطبخ وليست للأكل، بل لتعود إلى سيرتها الأولى، متقافزة في اللون، في ماء المعنى، في الرشاقة الضارية، في العينين الجوابتين للصور الوحشية، في الوجد وفي القيعان المنسية التي لا تنحطم فيها شجرة أو لؤلؤة.

-5-
ضحكة تنفجر في المنفى
لهوٌ متهتكٌ يحزُّ عنق حصاةٍ ملساء
ولدٌ يدغدغ إبط المجرة
كُرةٌ تصّاعد فوق الأشجار
قهوة تحبل بدراجة نارية تجوب ممراتٍ جبليةً
قصيدة تتحوّل إلى منطاد
باب عتيق يقرأ شعر أبي مسلم البهلانيّ
قبر منشغل بالرقصة المولوية
رحّالة ينمّق بطاقات بريدية إلى أصدقائه
بأصباغ النبيذ والكوكتيلات الملونة
سطر يشتبك مع غزالة غنِجَة
بئر من عسل ودموع يخرج إلى الطرقات
حاملا لوحه المتعطش
شاعر يقولون أنه مات
لكنّه الآن إلى جانبي، في الحانة البحرية،
يقرأ على مسامعي قصيدة طازجة،
عن القلب الملتاع، الذي توقّف قليلاً فحسب، في بلدته الصغيرة،
كي يحزم حقيبته، عائداً إلى التيبت، إلى سيلان، إلى كمبوديا،
إلى كتنماندو، إلى الهيمالايا، إلى قمة إيفرست التي تخطّاها أكثر مما ينبغي.

■ ■ ■


تاج البستان

الشهوات تتبعكِ
وأنتِ بزُنّارِ البعيدين
أكناناً في العدم
تطيرين في الشوكِ والأسل
تقبضين الرّوحَ الطالعةَ
في الحصن القديم
برقصة مولانا جلال الدين
ببذور هي حثوة أعياد .
نسيكِ البحرُ قُدّامَهُ
وعندما أبصركِ
غُشِيَ عليه بالموج والملح

بعيدةً عن السُّورِ
لأنَّكِ تاج البستان
والغائرُ الذي يُغوي العِرْق

تُغيثين الزهرةَ قبل النُّثارِ
العسلَ قبل غرامِ النّحلة
النّارَ قبل أوان الأحطاب.

من "وجه القُبلة، 2013"

■ ■ ■

شِعرٌ وافرٌ في تلك البلاد

كلما نظرتُ إلى تلك البلاد
تعجبتُ من أمرها

لا فَلَجَ فيها ولا وادٍ ولا نهر
ومع ذلك تنضح بالمياه
التي تغسلها
أحجار الجاهلين
والأطفال
والسكارى

لا شعراء على أديمها
يقرأون أشعار الأشياء المنسية
والشخوص الغائبة
ومع ذلك تتبذخ أشجارها
وتزهر جذورها المجنونة

لا أمل فيها لأي فقير أو منتقم
ومع ذلك تتشرد في أراضيها
متملصة من خزيها
كي لا تصل إلى حماقة الميزان

■ ■ ■

إنها هكذا دوماً
مثل العدم
تطير فراشاتها إلى اللهب

إنها هكذا أبداً
تتأرجح لهاتها
بين مقاصل
الرعاة، الذي ينسجون الذئاب والثعابين
وفخاخ الأسياد

إنها هكذا
كالروح المرتعشة
تتـندر
بينما هي تندحر في ذبالة الكلمات

إنها هكذا
كالقطارس
التي تُغرِقُ البحرَ في رأسها

إنها هكذا
كالجريمة
ظامئة إلى يَدِي
لأمسّد عنق حمامتها
الضالعة
في اندلاع الطوفان.

من "ظلٌّ يهوي معبّأ بالضحك، 2013"

■ ■ ■

الدخان الرسّام

بالفطرة الحرّة وحدها، قمتُ أحيي الدخان الرسّام، الدخان المتهتك، الدخان المطّاير، مع أنّ البشر يمضون مكتظين ومحتشدين في وجه النار المركزية. بالرائحة التي تشوي الكستناء البريّ كنتُ أتعدد وأنقسم وأتكاثر في ألسنة الدخان، بعد أن نكست النيران راياتها وخلع الجمر عنه قميصه الأول. بالرغبة المتضورة للطيران، الذي يهسهس في روح الطفل، نصبتُ أجنحتي وتوكلت على دخاني. بالشبق الجامح في جوهرتي قامرتُ بالرصاصة المرّة في الروليت، مخلّصاً الوليد من أمّه العدوانية، وفاصلاً النصر عن الرحم، ومباركاً الدخان الجوّال الذي يرسم الغيوم.

يا شقيق السراب، جسدك يتهاوى في ركامه، ما إن تتشكّل تتحوّل، ما إن تستقم تترضّض، ما إن تستطل تتربع وتتثلث وتتعيّن، ما إن تنتصب تتفرّج، ما إن تحتطب تشتعل أشجارك، ما إن تتهندم تتعرَّ، ما إن تقف على قدميك: تتزنبرك في رأسك، ما إن تجثُ خادماً: تجلس على عرشك مطّايراً.

تخيّرتَ طريقَكَ فانصاعت السماوات، تبعتَ حنجرتَكَ فرفرف الطائر، باغتّ إرادتَكَ فصرتَ خالداً أيّها الفاني، رأيتُكَ تكتب في عينيك روايتك فاندلعتْ القصائدُ من خاصرتيك، انزلقتَ كسمكة رمادية فشبع الرائون، ارتفع بهاءُ أشرعتك فشعّ ضمير بوصلتك، تكاثرت ألسنة غيابك فانهمر - كالسيل - على قدرتك اللاحسون ومصّ رغوتك المصّاصون.

نصبتُ شباكي لكي آخذكَ في ظلامي، وعندما اصطدتك توسلتَ إليّ أن أمهلك يوماً أو يومين لكي ترتّب أوتاد بيتك وأوضاع مواقدك الغبراء. حاصرتك في غليوني فقمتَ تأخذ أغلالك وتطير بي في صدري. أغلقتُ عليك غطاء طبق المودّات فصرتُ آكلني بملاعق من أجنحة الفراشات المجنونة.

أرى أشجاراً من دخان، غزلاناً من دخان، نموراً من دخان، بلداناً من دخان، كؤوساً من دخان، شخوصاً من دخان، كلاماً دبقاً من دخان مطّاير، ألسنة زلقة من دخان خبيث، رئات مسرطنة تعدو في دخان أسحم، أقماراً متكسّرة كالزجاج في دخان يزدرد ساكنيه، فقهاء ومتكلمين يتعاركون على قطعة من دخان، أكاديميين مصابين بالبرص والاكتئاب يتسلقون سلالم دخانية، دراجات نارية وشاحنات تنفث مؤخراتها الدخان على الدخان، صبياناً أشقياء يتبولون في الأعالي على فوهة بركان ينبعث منها الرماد والدخان والأبخرة.

أرى قطة وحشية عمياء تركض برعبها وحراشفها من الدخان وإلى الدخان، أرى جريمة كاملة تحتشد في كتاب الدخان، سوقاً يبيع جثث زرافات مدخنّة، أعياداً ترفع على بزاتها العسكرية نجوماً وتيجاناً دخانية، فاكهة مسمّمة نُقِعَت منذ الأزل في دخان الضغينة والأحقاد يتناولها شعراء مغدورون. أرى رؤوساً لا مرئية تختبئ وراء السور لكنّ الأدخنة تشي بهم. أرى الأشجار تتحرك لكنّ زرقاء اليمامة كان طوفان الدخان قد اقتلع عينيها. أراك أراك أيها الدخان تتربّص بالخرائب وتترصد أعواد ثقابها النائمة.

أتحسسك أيها الدخان، أرطّب لعابي بديدنك وجبلتك، أنفخ فيك كما يفعل الأطفال في الشموع المهدرة، أحسوك بعينيّ لعلك تنفع في الشدائد والأيام الحالكة، أقبّلك لعل الجميلة التي فيك تستيقظ من مغبة الغرق، أزيل عنك الغبار لعلّ زمنك تلمع كتبه وخزانته وموقده، أجلس في مطبخك السريّ لعل قهوتك تقول لي: صباح الخير، أهزّك لعل خرسك يندفع مولياً خارج الباب، أمسّد ضبابك المحايد لكي يتلظّى وينتفخ ويدخل في نار لغتي المتعطشة.

الدخان والسراب حبلت بهما نفس الأمّ، التي اسمها النار. لكنّ وليدها المسمّى دخاناً كان بصيراً، لذلك يحدّق في قبة السماء بعينين فاغرتين تنهشهما أشواق الأبد، بينما كان أعمى ذلك الوليد المسمّى سراباً، لذلك تنطلي عليه لعبة الجاذبية، فيخرّ على وجهه ويتقلب بعينيه الفارغتين على أرض الصيف.

كان الدخان يحكم مملكة الأشباح النارية، بينما كان السراب يحكم مملكة العميان الهيولية.

الدخان أحمر يتقنّع بالرماديّ كي يخطئه سهم العين العدوة، بينما السراب أزرق يتقنع بالفضة، يشربه الظمآن المقتول برغبة الوصول.

دخلتُ فصل الدخان فعلمني طبشوره الناقم أن أتعفف عن الزائل. دلفتُ مرج الدخان الشاسع فعلمني هواؤه الجافل أن الفردوس هو السفر. أتيتُ أتسكع في حقل ذرة الدخان فحزمتني السنابل في ذهبها، فصرتُ أتجوهر وألمع. ذهبتُ في آخر الدرب، أصفر بأغنية ظننتها فانية، لكن كلما كادت أن تتلاشى تجمعتْ من حيث لا أدري في مجد الشكل.

* من "فرجار الراعي، 2015"

المساهمون