الحياة في مساحة متر ونصف

الحياة في مساحة متر ونصف

23 مايو 2018
(تفصيل من لوحة لـ صفية عمّار/ تونس)
+ الخط -

أبلة شوشو دلع شادية، وفيبي دلع فوقية، ليستا سيدتين كسائر السيدات، وإنما هما مخلوقتان غريبتان، في حياتهما ألغاز لا تُفهم، وفي طبيعتهما عناصر لا تدخل في تركيب البشر منذ كانتا طفلتين تتلذذان بتناول ساندوتشات الفينو بالسكر، والمكرونة، اللتين أصبحتا الآن عدوّهما اللدود بعد إصابتهما بالعديد من الأمراض، أولها بالطبع مرض السكري.

أبلة شوشو تزوجت وعمرها تسعة عشر عاماً، وأدركت من رحلة العلاج الطويلة بحثاً عن الأمومة أن زوجها لا ينجب، وتتنهد تحكي بحسرة وأسى: استنفد عمري معه كسحابة عابرة.. بعد خمسة وثلاثين عاماً تذكر يقول لي، يا شادية من حقك أن تتركيني، وتطلقي وتبحثي عن زوج يحقق حلمك.

كان زوجاً أنانياً، شرهاً في الطعام والتأنق في ملابسه زيادة على الحد، وسهراته مع أصدقائه التي تجلبه إلى المنزل في أحيان كثيرة مع بزوغ فجر اليوم التالي، وأنا وحيدة خائفة، منزوعة من كل دفء وحنان وتسلية، وقد تحوّلت إلى كائن هش، خامد، ليس عندي أي قدرة على اتخاذ القرار الصائب أو الخطأ، فأنا مجرّد رد فعل للآخرين، يفعلون بي ما يشاءون، وليس أمامي غير الانزواء، وتمزّقت إحساسات شتى داخلي كلها متضاربة، منها الدهشة من عبث القدر معي، ومنها اليأس، ومنها الغضب من سلبيتي، ومنها دوافع الجنس، حتى أهمد تماماً وأقبع إلى جانب الحائط كجرو صغير بائس.

مات زوجي وكان عمري خمسة وأربعين عاماً إلّا شهرين، وعندما رأيته جاثماً في سريره، تركت خيالاتي الحزينة، والعمر الذي مضى يفتش عن قراءة عن معنى لحياتي أمام عينيه المغلقتين. وتماست روحي مع تلك الجثة كلوحة صماء يمزقها فراغ المكان والحياة حتى من هذا البغل الميت، قررت أن أقوم بزيارة قصيرة إلى بيت الله، وكان يتبقى شهران على تمام الـ 45 عاماً لأذهب لعمل العمرة دون محرم، بعت خلالهما شقة الزوجية في الزيتون في محافظة القاهرة، واشتريت شقة مكوّنة من حجرة وصالة ومطبخ وحمام لا غير، إلى جانب أختي فيبي في إمبابة، وبالمناسبة هي عاقر لا تنجب، وبدأت أحرضها على العيش معي، فهي أيضاً ملّت وكرهت معاشرة زوجها رفعت الذي كان يعمل مديراً مالياً لمصنع كبير، حتى قامت الحكومة في عهد الرئيس السابق حسني مبارك، بحملة خصخصة للعديد من المصانع، فباعته لمستثمرين جدد، مختلطي الجنسيات، أخذوا قروضاً من البنوك بضمان المصنع، وهرّبوا بالمال، وأفلس المصنع، واضطرت الإدارة إلى تسريح جميع العاملين فيه، وإغلاقه، وبيعه، وتحويله إلى عمارة شاهقة، وكأن شيئاً لم يكن..

تقاضى رفعت مكافأة هزيلة ومعاشاً مبكراً يدخره للأدوية بعد أن أُصيب بكل الأمراض، القلب، والسكري، والضغط، والروماتيزم، حتى تعدّدت وتنوّعت الأدوية في كيس كبير يضعه على الكومودينو إلى جانب سريره، وأسفل زجاج الكومودينو يضع ورقة بمواعيد تناول الأدوية، حتى لا تختلط مواعيد الأدوية بعضها بعضاَ.. وتتوجهما العصبية الشديدة والانفعال لأتفه الأسباب كأنه جمر من النار مشتعل على الدوام، مما يدفع فيبي إلى معايرته وإخراسه وإحباطه تماماً بالصراخ في وجهه: روح كفايه خناق يا قلبي روح يا أخي شوف كيس الدوا ليكون تاه منك... روح يا فاشل.

شوشو وفيبي تعشقان غناء الفنانة وردة الجزائرية، وكانت المفاجأة الرائعة أن صنعت شوشو بروازاً ضخماً ومذهباً وجميلاً أقرب إلى الجدارية للفنانة الكبيرة، ووضعته فاصلاً بين السريرين الّلذين لا يتجاوز طول كل واحد منهما متراً ونصف المتر، وعرضه متر لضيق الغرفة الوحيدة بالشقة، لتقضي شوشو فيها بقية حياتها مع شقيقتها الوحيدة فيبي، وأحياناً تتمردان على مرض السكري المصابتين به، وتتناولان سندوتشات الفينو بالسكر والمكرونة، أكلتهما المفضلة منذ كانتا صغيرتين، وتلعبان لعبة الأغاني القديمة، فهما مغرمتان بسماع ومشاهدة "روتانا كلاسيك" (الأغاني القديمة)، تغني شوشو غناءً مرتجلاً لأغنية ما، وعلى فيبي أن تخمن لمن، وتصرخ:
- وردة.
فتضرب شوشو على يديها بخفة ودلع:
-لأ.
- طيب نجاة.
وتخرج شوشو لسانها بسخرية لها:
- لأ.
وتميل فيبي برقبتها، وتقترب بوجهها، وتجحظ عينيها بتعمد لإرهاب أختها وتصرخ فيها:
- يبقى أكيد فايزة أحمد يا شوشو.
وتصرخ الأخرى، وقد برقت عيناها نوراً ووهجاً ضاحكة بصوت عالٍ:
- لأ.. عزيزة جلال يا فيبي.


* كاتبة من مصر

المساهمون