مصرع عبد الأمير

مصرع عبد الأمير

18 مايو 2018
صباح شغيت/ العراق
+ الخط -

لا يمكن لأحدكم أن يتصوّر بأن باصاً مصنوعاً من الخشب يمكن أن يكون له اسم وكنية وشخصية وتاريخ مسخم بالسواد وصديق أيضاً، صديقٌ.. لا يعبأ به، ولا يتوانى عن توبيخه برفسة على مقدمة وجهه لمجرّد أن يومه كان سيئاً؛ اليوم السيئ يعني لصاحبنا بأن علبة السجائر أصبحت فارغة والقرش الأبيض طار حيث استطال اليوم الأسود ونزل على بخته كعباءة أرملة كالحة الحزن. فلا بأس، والحال هذا، من تفريغ بعض شحنات الغضب في وجه الكائن الخشبي الأعزل الذي لا يستطيع أن يردّ الرفسة بمثلها أو بأحسن منها، فهو مجرّد قطعة خشب مكسورة الجناح انفصلت عن أمها الشجرة بضربة فأس غاضبة.

باص الخشب، كان وسيلة نقل موثوقة في العراق قبل عقود من الآن وتحديداً، في مدن الجنوب.

أما "عبد الأمير"؛ الباص الذي كان يعمل على خط نقل الركّاب (عشار- أبو الخصيب) في مدينة البصرة في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، فقد كان سيئ الحظ كدأب أفراد عشيرته من قطع الخشب التي تمتدّ بنسبها إلى غابة من الأِشجار المغدورة. فكان أن أسلم العنان لقدره من دون مقاومة تذكر، حين صار عبداً مطيعاً لنوبات غضب شقيقي الأكبر.

اكتسب الباص شهرته بين أفراد الأسرة والأصدقاء من خلال علاقة غريبة جمعته بعرّابه، الذي كان يؤرجحه بين شوطين من التدليل والتعذيب وفق ما كان يطرأ له في يومه من أحداث. بين مزاج فشل أو نجاح. بين ومضة أمل أو خيبة أمل.

كان "عبد الأمير" يتحوّل من "أموري" العزيز المدلل، إلى "أُميّر" المغضوب عليه، بضمّ الألف وتشديد الياء؛ وهو اسم تدليل معكوس المعنى يشاع استخدامه في مدينة البصرة للتعبير عن مزاج غاضب ومشاعر آنية عدوانية تجاه المنادى عليه. هذه هي الطريقة التي اتبعها شقيقي في التعامل مع صديقه الخشبي.

لكن شقيقي، حاله حال بقية الناس، كان مهيئاً لامتصاص نوبات غضب الآخرين وما أكثرها، حيث الضربة الأكثر إيلاماً التي استقبلها بعد أن ارتكب كبيرة استخدم فيها جميع خلاياه الشريرة، هي التي التصقت باسمه فلم تفارقه طوال سنوات طفولته وشبابه. لم يكن اسم التدليل الذي علّم على جلده اسماً عادياً، كمثل الأسماء التي اعتاد أهل البصرة على تلوين مفرداتها وإضفاء لمسات من اللهجة المحلية المحببة إليها، مثل اسم أحمد الذي يتحول في الغالب إلى (حميّد) بتشديد الياء، أسعد (سعيّد)، سارة (سويرة)، آمال (اميّلة)..

اشتق اسم تدليل شقيقي على نحو أكثر تعقيداً من قبل أحد أقاربنا؛ فكان أن أحضر اسمه وأضاف له صيغة التصغير الشائعة، بعدها نثر عليه قليلاً من حروف اسم كوجي كابوتو؛ وهو البطل الشريك في المسلسل الكرتوني "غريندايزر" الذي يشبهه في بعض ملامحه، ثم أعاد مزج الخلطة، فكانت النتيجة (مكيّج) بتشديد الياء!

هل يبدو هذا مضحكاً أم مثيراً للغضب؟

لا هذا ولا ذاك، لأن (مكيّج) لم يكن معنياً بالأمر، فقد كان عليه أن يرتكب بعض الأفعال الشريرة في حياته قبل أن يشغل نفسه بمجرّد اسم.

■ ■ ■

كان مكيّج يدرس في كلية الهندسة؛ صاحب عقل جبار ومقدرة غير متناهية على دحر "أقمش" مسألة رياضية يمكنها أن تعترض طريقه. لكنه، كالعادة، لم يلتفت يوماً إلى عبقريته التي كانت تثير دهشة معلميه، ثم أساتذته الهنود في الجامعة. لهذا، تعثّر كثيراً في تعليمه حتى استغرق منه الأمر سنوات طويلة قبل أن يُنهي دراسته الجامعية. كلّ ما كان يهمّه أن يصقل شخصيته ويعتمد على نفسه حتى وكأن دراسة الهندسة جاء أمراً عارضاً في حياته، فكان على استعداد أن يبدلها بأي مهنة تعزّز استقلاله وتمنحه بعض المال في العطلة الصيفية.

اقترح عليه أحد أقاربنا بأن يعمل سائقاً على باص الخشب على خط (عشار – أبو الخصيب)، فوافق على الفور لأنه كان يحب السيارات. إذ أن هذه الماكنة العجيبة طالما استفزّت اهتمامه، وعلى الرغم من أن "عبد الأمير" لم يكن تلك الماكنة التي تلبي طموحه المعرفي بميكانيكية السيارات، إلا أنه قبل الوظيفة على مضض وأرفق قبوله بشرط أن يصطحب معه صديقه المشاكس وزميله في الهندسة صوفي، فتم تعيين الصديق "سِكِن" للسائق ولمن لا يعرف معنى هذه الكلمة المتداولة في اللهجة الشعبية العراقية، فإن "سِكِن" تعني مساعد السائق وأجزم بأنها اشتقت من الكلمة الإنكليزية Second، فمساعد السائق هو الشخص الذي يأتي في المرتبة الثانية بعد السائق، يقضي معظم وقته في العادة واقفاً على قدم واحدة بالقرب من باب الباص فمتكئأً بقدمه الثانية على الباب، ليتسنى له جمع الأجرة من الركاب ثم يتولى مهمة إيقاف الباص بالإشارة إلى السائق أو تنبيهه بطريقة متفق عليها، على وفق رغبة الركاب، يليه الإشراف على صعود ركاب جدد إلى الباص بعد أن تتوفر مقاعد فارغة من جديد.

كان شقيقي سائقاً متهوّراً، لذا عانى صديقه أيما معاناة من اهتزاز الباص والتوقفات المفاجئة لتجنّب حوادث اصطدام أو بسبب عوارض الطريق والتزلج نزولاً على الجسور الصغيرة في شارع أبي الخصيب الرئيس، ثم "الطسّات" التي تراوحت بين الخفيفة والشديدة.

في كلّ مرة، كان جسد صوفي ينقلب على رأس أحد الركاب الذين يجلسون على الكرسي القريب من الباب، فيتدهور مثل وعاء شوربة العدس الساخنة. لكن مكيّج لم يكن يهتم لذلك كعادته، وكانت هذه الفقرة جزءاً من تسليته وهو يقود الباص ببطء بين العشار وأبي الخصيب.

كان يضحك طويلاً عندما يخبر الأصدقاء المشتركين في الجامعة بأن السكِن وقع في هذا اليوم مثلاً خمس مرات. والمرة الأخيرة تلقى شتيمة في وجهه من أحد الشيّاب ولم يستطع أن يردها. لكنه مثلاً، لم يصادف يوماً أن وقع في حضن امرأة حتى لو كانت متوسطة الجمال لأن النساء نادراً ما استخدمن باص الخشب في تنقلاتهن، بسبب حظه النحس.

مثل غيره من سيارات النقل، عانى الباص "عبد الأمير" من التعطّل والتوقفات الكثيرة وكان السائق يضيق به ذرعاً في أغلب الحالات، لكن المفارقة أن عطلات الباص لم تكن تستدعي أخذه إلى ورشة ميكانيكي السيارات بل إلى النجّار!

كان وارد هذا العمل الشاق قليل جداً مقارنة بالجهد الذي بذله شقيقي في العمل عليه، وكان يتقاسم الوارد مع مالك الباص بالتساوي، إلا أنه طالما تخلّى عن حصته الكاملة من الأرباح ومعه صوفي طبعاً، بعد أن يكون دفعها بالكامل في إحدى ورش النجارة لتصليح عطل ما في الباص.

■ ■ ■

في يوم أغبر وبعد مشادّة كلامية بسيطة بيني وبين مكيّج على أمر تافه، تعرضتُ إلى التهديد؛ حين أخبرني شقيقي بعد أن رفضت غسل قمصانه، بأنه سيحضر ومعه "عبد الأمير" إلى مدرستي يوم السبت، وهو يرتدي بدلة صفراء فاقعة ورباط عنق أخضر فاتحاً (إمعاناً في الإذلال)، ليقلّني إلى البيت أمام أنظار زميلاتي!

كاد مجرّد التفكير في هذا الأمر يصيبني بالدوار؛ فقد كنت أتباهى دائماً أمام زميلاتي في المدرسة الإعدادية بأن شقيقي شاب وسيم رقيق، يعتني كثيراً بأناقته ليعجب زميلاته في كلية الهندسة، وكلّ ما استطعت أن أصوّره لهم من كذبات. ولكم أن تتخيلوا حجم خوفي في ذلك اليوم وأنا أتخيل مكيّج وهو يُوقف "عبد الأمير" أمام المدرسة ويترجل منه ليقلني إلى المنزل. كانت هذه الواقعة ستدق آخر مسمار في نعش كبريائي.

لم ينفذ مكيّج تهديده، فقد تأخر في العودة إلى المنزل يوم السبت. عندما رجع إلى المنزل مساء، كانت علامات القلق بادية على ملامحه، ما أثار دهشتنا، لكنه بادر بالحديث أولاً ليفسد علينا فرحة استجوابه: "تركت العمل على الباص وسأصفي الحسابات مع المالك يوم غد".

حين نظرت إلى الشارع، لم أجد "عبد الأمير" متوقفاً حيث اعتاد شقيقي أن يركنه أمام المنزل بعد انتهاء ساعات العمل. سألناه: "ماذا حدث وأين الباص؟".

"تركتُه في الشارع.. قريباً من إحدى القناطر في أبي الخصيب!".

"لماذا؟".. قالت أمي باستغراب.. "سيسرقه أحدهم بالتأكيد!!".

أجاب متلعثماً وفي زاوية فمه شبح ابتسامة: "لا، لا تخافي، لن يسرقه أحد.. فلا فائدة ترتجى منه بعد الآن!".

"شلون يعني؟"، سألته بدوري.

أجاب ببرود وكأنه يريد أن ينهي الحديث بسرعة: "لا شيء. بعد أن غادر آخر نفر من (العبرية) وأوصلت (السكِن) إلى منزله، كنت أسوق الباص بسرعة غير معتادة. انزعجت لأن الوارد ذهب كله للمالك. أثناء ما كان "عبد الأمير" ينهب الأرض القريبة من إحدى القناطر، حدث شيء غريب، في الواقع.. لا أعرف حتى الآن ما الذي حدث بالضبط، لكني، وجدت نفسي فجأة أنظر إلى السماء ولا شيء أمامي سوى السحب.. يبدو أن "عبد الأمير" قرر أن يتوقف عن العمل نهائياً وينتحر بصورة دراماتيكية؛ وقف على قدميه الخلفيتين وأسلم الروح!".


* كاتبة من العراق

المساهمون