الحقيبة

الحقيبة

24 مارس 2018
(عمل لـ إفجيني روخين)
+ الخط -

أفكّر في شأن ذلك الرجل، تحديداً في تلك الحقيبة التي بحوزته. إنّه لا يكترث لها على ما يبدو. يجلس كتمثالٍ حجري لفيلسوف على المقعد الخشبي في المحطّة. لا يفعل أكثر من تقليب الصحيفة المهترِئة الممدودة كجناحين بين يديه بينما يغطّ رأسه تماماً في داخلها.

أجلسُ على المقعد المقابل، أتظاهر بقراءة الرواية التي بحوزتي، لكنّني منشغلٌ به تماماً، منذ أن رأيته، وأنا ما زلت بالصفحةِ ذاتها، رقم 45 من رواية ماركيز، "مئة عام من العزلة".

أُخمّن ما الذي يوجد في حقيبةِ هذا الرجل. يخطر لي خاطر رهيب ومُلحّ جداً، أن أسرقها. ليس الأمر مُتعلّقاً بالحالة المرَضية التي لدي، الفضول المزمن كما يسميه الطبيب. لا. إنما لأجل أن أعرف ما الذي يوجد يداخلها، إنها مسألة تبعثُ بحقّ على الحيرة والتساؤل.

أخيراً أقرّر فعل ذلك، وفي الوقت نفسه، من باب الأمانة، أن أعيدها إليه إن كان بداخلها شيء خاص جداً، أو نقود، وأقسم على ذلك. فأنا لا أسرق النقود أو الأشياء الخاصة بالناس. إنما أريد حقاً معرفة ما الذي بداخل حقيبة رجل غير مبالٍ بأي شيء على ما يبدو.

من دراستي المستفيضة لحالته، أجد أنه لا يكترث أبداً لوجودها، لا يكلّف نفسه إخراج رأسه من الصحيفة ليلقي ولو نظرة واحدة عليها إن كانت ما تزال موجودة أم لا، بعكس ما يفعل الناس عندما يضعون حقيبة سوداء من الجلد إلى جوارهم على مقعدٍ في محطة مزدحمة، خصوصاً وأنّ أكثر من شخص قد جاء وجلس قليلاً إلى جواره ثم غادر دون أن يلفته ذلك.

أعدل عن الفكرة. أطبّق نصيحة الطبيب بتجاهل نداء الفضول المُلح. أعود للصفحة 45 من الرواية، لكنني أجد نفسي، ودون مبرّر أرفع نظري فجأة إليه، ما زال على هيئة التجمّد تلك.

أفكر بحزمٍ هذه المرّة، أن أجلس إلى جواره دون أن ألقي التّحية. سأكون خفيفاً وشفافاً ما أمكن. وعندما تمرّ مجموعة كبيرة من الناس من أمامنا سأحملها بهدوء وثقة وأندسّ معهم.

بالتأكيد، إن كشف أمري، لن أتردّد في تركها ومسابقة الريح، فليس بمقدورِ كهلٍ شائخٍ جداً، في الثمانين من عمره على ما يبدو، بشَعرٍ كلَونِ الصَّدف، أن يلحق بي! سنبدو كالسّلحفاة والأرنب.

أنهض الآن. أذهب إلى أوّل الشارع. أمشي نحوه كما لو كنت شخصاً يحترم نفسه ويمشي بثقة. بدا لي الأمر بأنه لن يرفع رأسه من الجريدة حتى لو انفجر بركانٌ في الجبل المقابل.

أجلس إلى جواره. أنظر إليه بشكلٍ جانبي دون أن أستدير برأسي. خطر لي خاطر أن أقرأ تلك المقالة التي يقرأ فيها، أثارت فضولي بشكلٍ رهيب، لكنني تراجعت، والتزمت بنصائح الطبيب تجاه حالتي المرضية، وأن عليّ أن أعرض صفحاً عن أية بوادر من شأنها أن تُثيرَ فضولي.

أستمرّ في النظر الجانبي إليه. في الأثناء أنزل يدي اليسرى من ظهر المقعد، أزحف بأصابعي كعنكبوت وأضعها على الحقيبة. إن ملمسها ناعمٌ جداً. لكنّه لم يحرك ساكناً. أمسك مقبضها المعدني. أزحزحها قليلاً ناحيتي. لا يكترث أيضاً. كل ما هنالك أنه قلب صفحة الجريدة ثم غطس، كالسمكة، برأسهِ من جديد، مستمرّاً في النظر إليها من خلف عدستين سميكتين.

أبتسم لأنّ لديه شامة على خدّه الأيسر، لصق الشفة من الأعلى كتلك التي لدي. أُقرّب الحقيبة مني أكثر. إنها تحت إبطي الأيسر الآن. أحملها وأنقلها إلى الناحية الأخرى، تحت ذراعي الأيمن. إنه لا يسمع بكل تأكيد. الشعر الأبيض الكثيف الذي ينبز من أذنين كبيرتين، كشعيراتِ حبة فجل، يوحي بذلك. أنهض أخيراً. أمشي والحقيبة معي دون أن ألتفت إلى الوراء حتى. أستمرّ في المشي قدماً. أجد أني قد قطعت مسافة لا بأس بها دون أي صراخ أو ضجّة تُذكر. أنظر خلفي، إنه ما زال على حالة التجمّد فوق المقعد.

أمشي أكثر من ذلك موغلاً في الزحام لأقطع الشكّ باليقين. أجد حديقةً فأجلسُ على مقعدٍ فيها. أضع الحقيبة في حجري. أفتحها بهدوءٍ وأدسّ رأسي، أحفرُ فيها كخُلْد. لكن المفاجأة ما رأيت، إنها صورٌ وأوراق قديمة صفراء مهترئة.

أتمعّن فيها أكثر. لا أصدّق! كلها لي في كافّة مراحل حياتي. صوري في الطفولة والصبا وحتى في الشيخوخة وأنا ما زلت شابّاً! أوراق بخط يدي ورسائل من عاشقات ومدّعيات! أفكّر مذهولاً كيف جاءت إلى هنا! أنهمك في موجة من الصراخ ثم أضحك بهستيريا، أتذكّر تلك الشامة فوق شفته اليُسرى! قطعاً إنني ذلك الرجل!

أغلق الحقيبة وأعود أدراجي مسرعاً إليه، لكنني لا أجد شيئاً غير الهباء والصحيفة. أركن الحقيبة إلى جواري بلا مبالاة. أحاول أن أكسر رتابة الوحدة. أمدّ الصحيفة المهترئة أمامي وأشرع من خلف نظاراتي السميكة بقراءتها دون ضجةٍ تذكر.

يختلس شابٌ النظر إلي من بعيد بينما يقرأ في كتاب. أراه يفعل ذلك. أخيراً يأتي ويجلس إلى جواري. أتجاهله. يُزحزح الحقيبة إليه. يسرقها ويمضي. أنظر إليه، من باب الفضول فقط، بطرف عيني بينما يغيبُ مسرعاً في الزّحام.


* كاتب أردني درس الفنون والتصميم في "الجامعة الأردنية"، وصدرت روايته الأولى "شارع اللغات السعيد" عام 2011، وروايته الثانية عام 2016 بعنوان "مقهى البازلاء"، وستصدر له قريباً رواية جديدة بعنوان "قارئ الإيماءات"، كما صدرت له في القصّة القصيرة مجموعة بعنوان "رجل الثلج" (2012). ويبقى التوجه إلى فن القصة مُقدَّراً في ظل "هجوم" الجيل الشاب على كتابة الرواية.


المساهمون