لم يعد يهم إلى أين ستفر

لم يعد يهم إلى أين ستفر

19 فبراير 2018
(هيمانت ديفاتي)
+ الخط -

فضاءٌ رتيبٌ يبعثُ على الكآبة

إلى هيرانيا

(1)

كيف لفضاءٍ في عقلي
أن يفيضَ إلى عقل ابنتي؟

أمامي تماماً امتدادٌ من
مبان، ومتاجر، وطرق سريعة، ومصانع، وزحام
وإذا سألتُها أن ترسمَ مخططاً لفضاءٍ
سترسم مشاهدَ غروبٍ للشمس
نهراً متدفقاً، أشجاراً، حقولاً، أضرحة
وترسم طيوراً تشبه خربشاتِ أرقام
في سماواتي الصغيرةِ، الغائمة

هي لم تشاهد أبداً ما يسكنُ عقلي

ـ من غابةِ المدينةِ غير المضفَّرة ـ

الغروب خلف المنزل
النهر، والأشجار، والممرات، والمعابد، والطيور، ومدقات الدروب

فكيف لذلك كله
أن يتدفق في عقلها؟

(2)

حين تبدأ الوعي
بصورة طفولتي
التي تدفقت بعيداً
وتدرك الإجابة عن السؤال:
"لماذا ترسم كذلك بالتحديد؟"

(3)

مثلي، تأتيها الكوابيس
لأناس بلا رؤوس
يحملون رفات القرى اليتيمة
لدفنها في مقابر المدن
فقط كي تنمو فوق أطلال القرى المطموسة

هو الأمر ذاته، وهو الفضاء نفسه تماماً
يغلق على نفسه
بكل البشر الذين بلا رؤوس

كلّها، المدن جميعاً لها الاسم ذاته
الشوارع ذاتها، المباني نفسها، المجمعات التجارية المماثلة
كلها مشلولة الحركة في الأماكن المحددة نفسها
مثل بيادق تستعد للسير

تتحرك عبر ممرات
بالاسم نفسه، والألوان ذاتها
والروائح نفسها، والأشكال ذاتها
والوجوه نفسها كما لو كانت قد استنسخت ذواتها
وعند كل مفارق الطرق الخادعة نفسها
تصل إلى التمثال نفسه

لم يعد يهم إلى أين ستفر
سيواجهها التمثالُ نفسُه مراتٍ بعد أُخَر
وستصل إلى الفضاءات نفسها
في المدن ذاتها
دون إشارات ترشدها أو علامات تهديها

في الأماكن ذاتها
ترى البشر أنفسهم
يتحدثون اللغاتِ ذاتها
بالأشكال نفسها
والإشارات ذاتها

يقفون في طوابير لها الطول نفسه
بالهيئةِ ذاتها تماماً
ليذهبوا إلى المحطات نفسها
وهم يقودون السيارات ذاتها
بالسرعات نفسها
وفي الاتجاه ذاتِه
وفي الوقت نفسِه
مارِّين بالأشجار ذاتها
التي لها الارتفاع نفسه
والفصيلة ذاتها
والمسافات بينها نفسها
مقسمة بالسياجات ذاتها
في الطريق نفسه

البشر أنفسهم
موزعون كنثارات أشلاء
بالطريقة نفسها
فجرتهم القنابل ذاتها
يرقدون متناثرين بالطريقة نفسها
هلعين بالطريقة ذاتها
محطمين بالهيئة نفسها
وبالحالة الرتيبة ذاتها
على شاشة أي قناة لأي تلفاز
تومض الصور نفسها ببؤسها متعدد الطبقات
رتابة
رتيبة
رتيبة
رتيبة كلياً
رتابة مثيرة للكآبة
كآ - كآ - كآبة
وها هي تتهالك، تتهالك وتنهار
لترى وجهي ذاته، الهلِع، والمكتئب

في اللحظة الأخيرة،
حين حررتُ قبضة يدها المشدودة على يدي
وسط الزحام
ومثلما فعلت أنا
اندفعت بعيداً تطفو
في الطوفان العملاق الذي يدمر ذاته
لبشر بلا رؤوس

يأتيني الحلمُ نفسُه الذي تحلم به هي
في اللحظةِ نفسِها

وأراها أيضاً هلِعةَ الوجهِ كئيبته
أرى الرعب
والرعدة

نسيت أن أحمل القرية للمدينة
أو أحمل المدينة للقرية
لأصل هنا

فلأي مكان أتيت؟

■ ■ ■


أولُ غيثِ موسمِ المطر يهطلُ في الليل

مثلما تطل شاشة التلفزيون الفارغة
تهطل في الخارج ثمالة المطر حتى آخرها
رائحة أرضية لعطر لا يحمل اسماً
يسود الغرفة مثل ضوء التلفزيون المتعجرف
تنفجر أصوات الضفادع بنعيق مفاجئ
يبدو كأنه تجشؤ من تعاني معدته الحموضة

سيسطع في هذه الساعة من منتصف الليل
وكأنه مصباح نصف ميت
تبذل الزوجة العجلى جهداً خفيفاً
لتضع ابنتها في السرير
تنام الابنة
تستيقظ
تنام
لكن تستيقظ مرة أخرى

مع الرعد الفوار المفاجئ
تغلق الزوجة الغضبى
الستائر، والتلفزيون، والأضواء، والمرحاض، الغاضبة جميعاً

مثل الابنة
القصيدة التي استيقظ نصفها
في جب العقل
تنبت دهشتها
في قاع العقل

المطر في الخارج ورائحة الأرض
يتلهفان للوصول إليَّ
وأنا من داخل الغرفة
متلهف للوصول إلى القصيدة داخلي

أبذل جهداً خارقاً لإنقاذ
قصيدة العقل في
أعماق العقل

في وقت لاحق خلال هدأة الوقت
لو أمكن تنزيل هذا المطر نفسه كملف رقمي
وإذا أمكن لرائحة الأرض ذاتها أن تصعد كما يُرفع ملفٌّ إلكتروني
حينها قد أكتب القصيدة المحفوظة على القرص الصلب لجهازي
والاستمتاع كزوبعة راقصة
بأول غيث موسم المطر وهو يهطل في الليل

■ ■ ■


قصص داخل القصص

(1)

لم يكن هناك آنذاك كتب
فقط وُجِدَتْ القصص

والآن هناك كم هائل من الكتب
لكن القصص بداخلها اختفت

(2)

حطمت آنية الماء المصنوعة من الطمي
التي أهداها لي صديق
الهدية الوحيدة التي روت العطش
بالعطش
فلم يبق بعد عطش
والآن، بعد تجرُّع زجاجةٍ تلوَ الأخرى من المياه المعدنية
يبقى الظمأُ حيا لا يُروى عطشُه

(3)

تهدر الريح وهي تذهب
بقصص جولباكافالي الفولكلورية معها
يبدو غير حقيقي وغريباً بالنسبة لأمير
آتٍ من قصة غريبة
ليظل غريباً على الدوام

في القصص داخل القصص بقلب القصص
أظل غريباً

(4)

قد تقص عليَّ قصصاً عديدة جداً
تبدو أنها آتية من عوالمَ أخرى
ومن المعتاد أن تبدو غير معتادة
حتى حين أستدعيها الآن
في النهاية وحسب سنبقى
نلعب "الاستغماية"
يضرب أحدنا كرات الظلام باتجاه الآخر
نبحث عن ظلام دافئ طازج
في الغابات المعتادة بلونها الأرجواني غير المعتاد
داخل كهف المعرفة الهادئ
للظلام الأسير الذي هوى
بعد أن حكى كلانا للآخر حكايات معروفة ومجهولة

(5)

المسيح، محمد، بوذا، كبير، ماهافير، ناناك
توكارام، كريشنا، كاندوبا، فيتوبا، إلى آخرهم، إلى آخرهم
ظللت أبحث عنهم جميعاً
لكنني لم أجد في صدرك ماست كالاندر الساري في الجسد
يتدفق بلا نهاية حاملاً حب الأم
يلهو كقرد مثل حمى بركان
نسغ إله وديع
يكمن داخلنا، أنا وأنت

(6)

اعتدت أن تقص علي حكايات كثيرة جداً
حكايات كانت تجمعنا دائماً
وجهك يشرق على هذه القصص
مثل مصباح
أصبح قصة فأضاء
حتى الآن فإن ظلمة حكايتك
تومض بين فضاء الكتب
مثل أريج عطر يتسلّل من القصص

الظلام داخل الكتب
يتناثر متحولاً إلى قصاصات شعر في العقل
تاركاً تلك الكتب جانباً
أعود وحيداً إلى عالم قصصنا

(7)

أصوات الحروف التي تتدفق
من كتب الأطفال
تتكوم داخلي، حتى أترنح وأهوي
تماماً مثل عفريت حكاياتك الموهوم

في أي كتب لم أقرأها قد أضع ثقتي
في حجر الأمنيات لديك؟
هل يجب ان أثق بعقلك
الذي لا يزال حتى الآن يخادعني؟

(8)

آنذاك وحتى الآن
لم تكن بنا حاجة للدين أبداً
فالإيمان كله لنا
والعفاريت، والجنيات، والأميرات، والأمراء، والأقزام
والمصباح السحري، وفيكرام فيتال، وعلي بابا والأربعون لصاً
لم يكن أبداً أي منهم يخص ديناً ما

الآن، حتى القصص، بدأت تشعر بالحاجة للدين
وبدأت تتحوّل للقسوة
والآن أرى
الكاليين النحيفين البريين
يتحاربون فيما بينهم
وأسمع الأوراق وهي تذوي
داخل قصصها

لا توجد أشجار، لا أوراق
لا وقع أقدام، ولا أغنيات طيور، ولا أصوات حكايات
الآن، أي قصص يمكن أن أحكيها لك أو للأطفال؟


بطاقة: وُلد هيمانت ديفاتي Hemant Divate في ولاية ماهاراشترا الهندية عام 1967، ويعيش ويعمل في مومباي، ويُعدّ واحداً من أبرز شعراء اللغة الماراتية، فضلاً عن كونه محرراً وناشراً ومترجماً. من مجموعاته الشعرية: "قصائد حتى أربعة وثلاثين" (2000)، و"لا يمكنني التوقف وحسب" (2005)، و"الحياة تبدأ حين تدخل هذه الغرفة". أسس ديفاتي المجلة الأدبية الماراتية Abhidhanantar، وداراً للنشر في مدينه مومباي.

* ترجمة: أشرف أبو اليزيد

المساهمون