دم الخُلْد

دم الخُلْد

12 ديسمبر 2018
(الكاتبة)
+ الخط -

قلّةٌ من الزبائن تحضر إلى محلّي. مدرّسون عاديّون يبحثون عن حيوانات تجارب ذكية لاستخدامها خلال ساعات دروس الأحياء. أبيع الضفادع والحشرات والسحالي، لكنّي سأُغلق المحل قريباً، لعدم قدرتي على تغطية الخسائر، مع أنّي اعتدتُ هذه الغرفة والظلام المحيط ورائحة محلول الفورمالين.

دخلَت في أحد الأيام إلى محلّي امرأة ضئيلة الحجم، منكمشة على ذاتها كأنّها كتلة ثلجية في الربيع. لم تنظر إليّ. على الأرجح لم تَحضر لشراء شيء من محلّي، ويبدو أنها أُصيبت بعارضٍ صحّي طارئ في الشارع، ترنّحَت وأوشكَت على السقوط في أرض المحلّ قبل أن أُمسك بيدها.

- هل يوجد لديكم مناجذ (جمع الخُلْد)؟ سألَت الغريبة فجأةً. لمعت عيناها كخيط عنكبوت قديم منقطع وفي منتصفه عنكبوتٌ صغير مجرّد - بؤبؤ عين.

- مناجذ؟ لم أُكمل حديثي وكان عليَّ أن أخبرها بأنّني لم أبِع مناجذ من قبل، ولم أشاهد هذه الحيوانات أبداً. لكن المرأة رغبت أن تسمع شيئاً آخر، وبقيَت محدّقة بعينيَّ بحرقة.

- لا يوجد لديكم مناجذ! تنهّدَت بعمق ثمّ حوّلَت نظرها جانباً.

- لحظة، قد أملكُ بعضها. توقّفَت ونظرَت إليّ مجدّداَ.

- دمُ المناجذ قادر على الشفاء. همست المرأة وأضافت: "يكفي أن أشرب ثلاث قطرات من دمائها". كان الخوف والحزن يحفر عينيها.

- تُوقفُ دماؤها الألمَ لفترة من الزمن في أقل تقدير. همسَت مجدّداً، ثمّ انطفأ صوتها.

- هل أنتِ مريضة؟ سألتُها.

- بل ابني هو المريض. سحبَت يديها الجافّتين كغصنَي شجرة من سطح الرفّ المبسوط أمامها. أردتُ أن أهدّئ من روعها، أن أقدّم لها شيئاً ما، كأسَ ماءٍ على سبيل المثال. كتفاها صغيرتان وضيّقتان تكاد تتشتّتان في معطفها الرمادي الغامق.

- أتريدين كأس ماء؟ اهتزّت انحناءات التجاعيد حول عينيها حين تناولَت جرعة الماء: "لا عليك، لا عليك. لا أدري ما أقول!". أدارت المرأة ظهرها ومضت نحو الباب مغادرةً.

- لحظةً، سأمنحكِ دمَ خُلدْ. صحتُ بها. سارعتُ إلى الغرفة الخلفية. لم أفكّر بما أفعله في تلك اللحظة، ولا يهمّني كثيراً عزمي على الكذب وضرورة مراوغتها لتهدئة روعها. عملياً، لا توجد وسيلة للحصول على دم خُلد، ليس لديّ مناجذ والمرأة تنتظر. أغلقتُ الباب كيلا ترى المرأة ما أفعله، جرحتُ يدي بموسي صغير أحتفظ به في درجٍ إضافةً لطعم صيد أسماك. أخذ الدمُ ينزف ببطء من جرحي دون ألم؛ لم أجرؤ على النظر إلى الأنبوبة التي أخذت تمتلئ. جمعتُ القليل من دمائي في نهاية المطاف، كأنّ قاع الأنبوبة قد جمع حبّتَي توت أو ثلاثة. خرجتُ من الغرفة الخلفية وسارعت الخُطى نحوها.

- تفضّلي دمَ الخُلد. نظرت إلى يدي وقطراتُ الدمِ ما تزالُ تسيل منها. لم تمدّ يدها لأنبوبة الدم في البداية ووجدتُ نفسي مضطرة لوضعها بيدها عنوةً.

- دمُ خُلد. دمُ خُلد. لامسَت الغريبة الأنبوبة والدم نارٌ حارقة يلمع متألّقاً داخلها. بعد قليل، أخرجَت بعض المال من حقيبتها المهترئة.

- لا، لا أريد مالاً. لم تنظر المرأة إليّ، رمت الأوراق النقدية على الطاولة ومضت نحو الباب. أردتُ أن أودّعها، أن أقدّم لها بعض الماء على الأقل قبل أن تغادر، لكنّي أدركتُ عدم حاجتها لذلك، لم تكن راغبةً بالتواصل مع أحد أو الحصول على أيّ شيء آخر.

استمرّ الخريف بإغراق المدينة بمزيد من الأيام الضبابية. وبات عليّ قريباً أن أُغلق أبواب محلّي وأرحل. البرد قارس والمواطنون يغذّون السير خلف الفترينة دون أن يشتروا حاجة في هذا البرد. في صباح أحد الأيام، فُتح البابُ بعنف وإذا بها تلك المرأة نفسها الضئيلة الحجم. دخلَت وهرعَت على الفور نحوي. أردتُ أن أختبئ في الرواق المجاور، لكنّها تمكّنت منّي وعانقتني باكيةً. أمسكتُها كيلا تقع على الأرض وكانت مرهقةً للغاية. فجأةً، رفعتُ يدي اليسرى وكان أثر الجرح هناك قد اختفى، لكنّها تمكّنت من تحديد مكانه. ألصقَت شفتيها فوقه، وشعرتُ بدموعها ترطّب جلد يدي.

- لقد وقفَ وسار على قدميه. حاولَتْ أن تُخفي أثرَ ابتسامة بكفّها. أرادت أن تمنحني مزيداً من المال، وكانت قد أحضرت شيئاً وضعَته في حقيبة كبيرة، عادت أخيراً لرشدها وتوقّفَت أصابعُ يدها عن الارتجاف. رافقتُها إلى مدخل المحل، لكنّها بقيت واقفةً لوقت طويل عند زاوية الشارع، ضئيلة تبتسم في البرد الشديد. ثمّ اختفت وخوى الشارع من المارّة ثانيةً. أشعر بالراحة والامتنان في محلّي الصغير هذا، وكم بدت لي رائعةً رائحة الفورمالين العتيقة الغبية في تلك اللحظة.

بعد ظهر اليوم نفسه حضر رجلٌ طويلُ القامة، محدودب والخوف بادٍ على ملامح وجهه.

- ألديكم دم مناجذ؟ سألني وعيناه لا تفارق وجهي دون أن يرمش.

- لا يوجد لدينا، لم أبع يوماً دم مناجذ في هذا المحل.

- بل لديكم، لديكم. زوجتي على وشك الموت، ثلاث قطرات من فضلك. ثمّ أمسك بيدي اليسرى، رفعها عالياً بقوّة ولواها: ثلاث قطرات وإلا فقدَت الحياة!

سال دمي ببطء شديد من الجرح والرجل يمسك أنبوبة صغيرة، تدحرجت القطرات كالنمل في قاعها. ثمّ ترك بعض المال على الطاولة ومضى. في صباح اليوم التالي، وجدتُ طابوراً طويلاً ينتظر أمام المحلّ. أيديهم تُمسك بأنابيبَ وأمواسٍ صغيرة.

- دمَ الخُلد، دمَ الخُلد! سمعتهم يصرخون ويتدافعون. لكلّ منهم حكاية ومأساة في المنزل وبأيديهم أمواس كثيرة.


* ЗДРАВКА ЕВТИМОВА كاتبةٌ بلغارية من مواليد 1959، تعمل في مجال التحرير والتدقيق والترجمة من الإنكليزية والفرنسية والألمانية. نشرَت قصصها في صحف ومواقع أدبية في بلدان عدّة، وتُرجمت أعمالها إلى سبع وعشرين لغةً أجنبية، نشرت مجموعاتها القصصية في بلغاريا والولايات المتّحدة الأميركية. كما نشرت دار نشر "Buck Publishing" الأميركية روايتها "إله الخونة". تعرف أعمالها رواجاً في الصين والدول الآسيوية. قصّة "دمُ الخلد" أُدرجت ضمن مناهج التدريس في الولايات المتّحدة خلال العام الجاري في مليون نسخة. تكتبُ مباشرةً بالإنجليزية، وهذه أولى ترجماتها للغة العربية.

** ترجمة خيري حمدان

دلالات

المساهمون