زوجةُ الكاتب

زوجةُ الكاتب

14 أكتوبر 2018
حسين ماضي/ لبنان
+ الخط -

خرجَت المرأة الثلاثينية من الحمّام، تلفّ جسدها بمنشفةٍ بيضاء من الصدر إلى أسفل الرّدف بقليل، وضعَت قليلاً من المساحيق الليلية، ورشّاتٍ من العطر. قالت وهي تخلع المنشفة وتنسلّ لترقد في السرير: "ألا تريد أن تنام الآن، عزيزي؟".

لم تتلقَّ إجابة. استدارت بجسدها، وبحركة ماكرة، سحبت الغطاء لكي ينزلق قليلاً ويفترّ عن صدرها الوردي المكتنِز. قالت بصوتٍ حاولت أن ترفعه: "عزيزي!".

ودون أن ينظر ناحيتها: "نعم، عزيزتي".

- إنني أسألك، إن كنت تريد أن تأخذ قسطاً من الراحة، وتخلد للنوم؟

كان منهمكاً، كعادته، بالكتابة على طاولته الصغيرة في غرفةِ النوم. توقّف قليلاً، نظر إليها: "أُو عزيزتي، نامي أنت، سأكتب لبعض الوقت".

تنهّدَت المرأةُ بعد أن فشلت حيلة الصدر المكشوف. توسّدت ذراعها وهي تنظرُ إليه بكسل. شعرها ينسدل فوق كتفيها والجزء العلوي من صدرها. نظرَت إليه بعينيها الواسعتين الرماديتين، جالساً إلى طاولته بمنامته البيضاء المخطَّطة بالأزرق. أحبّت شعره المسرَّح بطريقة كلاسيكية، أحبّت مسحة الشيب فوق أذنيه، وذقنه المشذّبة بعناية. فكّرت بأنها ترغب بشدة أن يرفع الغطاء ويندسّ إلى جوارها، هذه الليلة بالتّحديد.

- ماذا تكتب؟

- قصّةً جديدة.

لاكت الكلام في فمها. ابتعلته بصعوبة، أرادت أن تتابع الحديث معه، لكنها صمتَت، فإن طرحت مزيداً من الأسئلة، سينهض مع حاسوبه المحمول، يخرج إلى غرفةِ الجلوس ليكمل كتابة قصّته هناك. تعرف مزاجه جيّداً، وتريده الآن أن يبقى أمام عينيها. إنها مشتاقة إليه، لا يحتاج الشوق إلى البعد دائماً، لذلك واصلت تأمّله، نظرت إلى يديه الرجوليّتَين طويلتي الأصابع، وهو يكبس على أزار الحاسوب، وفكّرت منذ متى لم يأخذ يديها بين يديه. ثم وجدَت الكلام ينزلقُ من فمها رغما عنها: "حول ماذا تدور هذه القصة، إذن؟".

لم تسمع جواباً.

- عزيزي!

- نعم، عزيزتي.

- كنتُ أتسائل حول ماذا تدور، هذه القصة؟

- قصة حب عزيزتي. لكنها، قطعاً، ليست تقليدية.

ابتسمت المرأة وتحمّست: "وما هو غير التقليدي فيها؟".

لم يُجب. تثائب مطوّلاً عدّة مرات. مطّ ذراعيه في الهواء، أغلق الحاسوب، أطفأ الإنارة على الطاولة.

انقبض قلبُها، اعتقدَت أنه سيغادر الغرفة ليشرع في القراءة كالمعتاد في غرفة الجلوس. غير أنه، وخلافاً لما توقّعَت، راح يجرّ نفسه مندسّاً إلى جوارها.

قال متثائباً: "تعبتُ من الكتابة هذه الليلة عزيزتي. عليَّ العودة إلى القصّة في اليوم التالي لبعض التعديل. قال المحرّر إن عليّ أن أُدخل بعض الحوار إليها، فقد لاحظ أن قصصي تخلو تقريباً من الحوارات. لا يُريدها قصصاً ميته".

وجدَتها الزوجة فرصة سانحة، لتقول بعض الأشياء المختلجة في صدرها، هذا البوح المباغت منه، على ضآلته، بعث في نفسها، فجأة، توقاً عنيفاً للحديث معه، أرادت أن تقول جملة من تلك الأشياء، فهُما، على سبيل المثال، ومنذ أكثر من ثلاث سنوات لم يتحدّثا وجهاً لوجه كأي زوجَين. لا تستطيع، رغم أنها حاولت، أن تعرف السبب الحقيقي لذلك.

وهما أيضاً، ولفترة طويلة، لم يجلسا في مقهى أو مطعمٍ أنيق، ليُمضيا بعضاً من الوقت بحميمية، يمسكان أيدي بعضهما البعض في صمتٍ رهيب مُحبّب. لم يفعلا أيّاً من تلك الأشياء البسيطة التي تعني لها الكثير.

فكّرَت بكل ذلك من دون أن تقول كلمة واحدة. التصقَت به من الخلف. راحت تهمس وهي تُغلغل يدها في شعره: "اُوه عزيزي، هل تشعر بشيء ما، هذه الليلة؟".

همهم بصوتٍ خافت: "ممم! أنا مرهَق جدّاً".

- ربما شيئا آخر، عزيزي.

همهم مرة أخر، لكنها لم تميّز ما قال. همست: "حسناً إذن، دعني أصارحك. هذه الليلة هي عشية ذكرى زواجنا العاشر، ودعني أقول لك في هذه الذكرى أيضاً أنني أصبحتُ لا أعرفك تماماً، عزيزي. حتى إن صديقتي قالت شيئاً عن الكتّاب، فهم يكتبون من عقولهم الباطنية في الغالب! وأنت لا تجلعني أقرأ ما تكتب، لأنك تعتقد بأنني أهتم بأشياء أخرى غير القراءة، أهتم بشكلي.. بالثياب الكثيرة.. بتسريحة شعري.. بالتنزّه.. بالتسوق.. بملاعبة قطتي.. أشياء كثيرة غير قراءة القصص.. وهي تافهة بنظرك، هذا صحيح، لكن ذلك بسببك، أجل، ودعني أقولها بكل صراحة، أنني وبناءً على نصيحة من تلك الصديقة وخشيةً من شيءٍ ما غامض ومخيف يختلجُ في صدري تجاه علاقتنا وديمومتها، أصبحتُ أدخل إلى مكتبتك كل يوم. لقد قرأت الكتب كلّها، كلّها في الغالب، بما فيها كتبك أنت، والتي بدأتُ بها على وجه الدقّة، أتصفّحها وأقرأها بنهم، إنني أبحث عنك فيها!".

انتظرَت أن يقول أي شيء حيال تلك المصارحة والتنهيدات المحرقة، ولمّا لم تسمع منه شيئاً في عتمة الليل، قالت: "عزيزي!".

سمعَت همهمة أُخرى ثقيلة، كجوابٍ على ندائها الأخير له. همهمة العقل الباطن. نهضت وألقت نظرة على وجهه. كان يغطّ في نومٍ عميقٍ جدّاً.

ألقَت برأسها على الوسادة، وجدَت نفسها تتأمّل سقف الغرفة المحمرّ بسبب الضوء الخافت، وسلخت الوقت تعبثُ بخصلات شعرها الفاحم، وفكّرت، أخيراً، في رأي المحرر حول مدى جودة قصص زوجها وخلوّها من الحوار، قلقةً جدّاً، من كونها قصصاً ميتة.


* كاتب من الأردن

المساهمون