الحياة البرية على شاشة تلفاز

الحياة البرية على شاشة تلفاز

06 يناير 2018
(آردا آرل)
+ الخط -

قال لي حكواتي ذات يومٍ، لا يجب أن أبدأ رواية حكاياتي مثل بوق جوٍ ماطر. كان نهاراً مشمساً كما لو أنها تمطر قططاً وكلاباً. الجو الآن غائم جزئياً. يبدو أنها تهطل في طبقات الجو العليا. أنا آنذاك شبه صبيّ/ طفل مقارنة بما أنا عليه في هذه الأيام. ومع ذلك، كلّ شيء كان أجمل. وفي أحد تلك الأيام:

أنا وأبي على سطح البيت معاً. لو كان الجو أكثر صفاءً لأمكننا أن نذهب لصيد السمك، أو أ، نقتلع شيئاً من العشب في الحديقة، والله أعلم. المدارس في عطلة، والدي محالٌ على المعاش.. بعد الفطور، أنظر إليه وهو ينظر إليَّ.

أقول بيني وبين نفسي: "أبي.. لا تطلب مني الذهاب إلى الحديقة في هذا الجو". ينظر إليَّ شزراً، متمتماً ومتلعثماً. لا أفهم. ماذا قلت يا أبي؟ قال: "لا يمكننا الذهاب لصيد السمك في هذا الجو، سنصاب بضربة شمس"، فأقول بيني وبين نفسي: "أبي ليس لديه ما يكفي من القوّة".

أخذتُ عنقود عنب من الثلاجة، غسلت حبّاته كيفما اتفق، استكنتُ أمام جهاز التلفاز مباشرة. جهاز التحكم عن بعد بيد أبي، يمرُّ مروراً سريعاً على قنواتنا المعتادة. مجلة، مجلة، استعراض حفل زفاف متلفز، رئيس الوزراء يتحدث، الدولار يرتفع، مجلة أخرى، ورئيس الوزراء يتحدث، رئيس الوزراء يتحدث مرة أخرى، شريطٌ وثائقي، علامة قف.

الرجل في الشريط الوثائقي يقول: "بحيرة بايكال تنظف نفسها". يقول أبي: "أوه! القدس". العنب للمعدة. يعطيني العنقود كاسراً إياه من دون تخريبه. ما إن حصلتُ على عنقود العنب، حتى تغيّرت القنوات الفضائية بسرعة. أخيراً تنفّس كلانا الصعداء حين وجد أبي محطة تلفازٍ أجنبية.

"إركان كارا" على شاشة تلفاز أجنبي مرة أخرى، صيد سمك شبوط نهري في فرنسا. أقول: "بابا، ألم نشاهد هذا بالأمس؟". يقول: "لا، ذلك كان شيئاً آخر".

يحاول الأخ إركان سحب قصبة الصيد بعناء، يسحب ويسحب. أختلسُ نظرة إلى الوالد، وهو يراقب السمكة من وراء نظارتيه عابساً. السمكة عنيدة كأنها تقول: "لا أريد الخروج من الماء".

الأخ إركان أكثر عناداً منها، أقسمَ ألا يترك السمكة. إنهم يتقدمون بعدسة التصوير إلى الأمام. الأخ إركان غارق في العرق والدم، والسمكة عالقة في نتوء صخري، تتقلب يميناً وشمالاً، لا إمكانية لخروجها منه. تضرب النتوء الصخري برأسها، لو أن الأخ إركان غفل لدقيقة فقط، لسقط في الماء فارغ اليدين.

يقول أبي: "ها.. ها هو يمسك بالرئيس مرة أخرى". مرة أخرى؟ أسنان أبي بارزة وهو يقول هذا. يبتهج الآن وقد ارتفعت معنوياته مرة أخرى، وأنا أيضاً. أبي، من كان الرئيس؟ يرفع صوت التلفاز بعد أن يقول: "السمكة هي الرئيس". الأخ إركان يخلّص الرئيس من النتوء الصخري. وأسمع أبي يقول: "يا للروعة!". والأخ إركان لابد أنه سيأخذ الرئيس إلى المدرسة ويسجّله. سيقول الناظر: "جئت متأخراً يا سيدي". وبيني وبين نفسي أقول، سيدرس الرئيس مع الطلبة الأصغر سناً منه، بسبب إهماله. وثب في ذهني الناظر وهو يوبخ إركان.. شيء من هذا القبيل.

تقترب عدسة التصوير من فم الرئيس، في الخلفية شيء ما فرنسي.. فم الرئيس مفتوح، يمكنه ابتلاع يدي إذا أكرهته على فعل هذا، شفتاه أضخم من إصبع إبهامي.. كلما اقتربت عدسة التصوير أكثر، يمطّ الرئيس شفته السفلى. يقول أبي: "إنه يستعرض نفسه"، ثم ينفجر ضاحكاً، ويستمر: "أنظر إلى هذه الشفة السفلى، سوداء وزرقاء، السمكة فهمت أيضاً، فقط انزع تلك الصنارة".

أنظرُ إلى الرئيس، أجده كأنه يقول: "انزع تلك الصنارة". ومع ذلك لا يبدو أنه يتألم. يشبه الأمرُ ما يحدث حين تمزح مزحة سخيفة مع صديقك، فيمتعض، ولكنه يُظهر أنه سعيد، وأنت تصرُّ بلا خجل، فيقول: "كفى، ضحكنا وقضينا وقتاً ممتعاً، أرجوك، انتهى كل شيء".

بلى.. تلك هي نظرة الرئيس إلى الأمر.

أخيراً، يبدو أن الأخ إركان يلتقط ما يفكرُ فيه صديقه، فينتزع الصنارة من فم السمكة. ثم، يعطيه أحدٌ ما ميزاناً. يبلغ وزن الرئيس 24 كيلو و900 غرام. يتناول الأخ إركان ورقة من جيب بنطلونه الخلفي ويمدّها نحو عدسة التصوير بحيث يمكن قراءة المكتوب فيها. يقول: "زاد وزن الرئيس 300 غرام منذ الشهر الماضي".

طعم العنب لذيذ، حلاوته باقية في كفي؛ ألحسُ أصابعي. الناس يوجهون أسئلة، تُلتقط صور. يطلق الأخ إركان الرئيسَ ويدعه يعود إلى البحيرة. يختفي الرئيس بسرعة غير متوقعة. وأقول: "أبي، دعنا نذهب لصيد سمك الشبوط النهري ذات يوم".

يحكي أبي أنه لم يعد هناك وجود لتلك الأسماك الكبيرة ذات الحراشف اللامعة مثل المرايا في سدودنا بعد اليوم. لا وجود لكلمة تجعلني مغموماً أكثر من كلمة "بعد اليوم"، ومع ذلك أقول، حسناً، ولكنني أفكر بيني وبين نفسي أن كل شيء يكون جميلاً فقط في الأوقات التي تكون فيها شاباً. أقول هذا من دون غضب، الحقيقة عكس هذا، إنني أقولها حسداً.

يواصل أبي الكلام على نحو اعتباطي. يقول: "أطلقوا أسماك إسرائيل في كل البحيرات"، ويقول، مثل هذه الأشياء... نستطيع أن نفهمها، ليس كانتقام ثقافي، وإنما كحكمة أناضولية لتسمية نمط سمك مفترس، بليد، أعجف، بلا طعم، وصغير، إضافة إلى أنه كريه، يحلّ محلّ أسماكٍ أخرى، مخرّباً بيئة البحيرة الطبيعية، كما يفعل ما يسمى سمك إسرائيل في الكلام الدارج.

يتوقف أبي عن الكلام بصوت مسموع فجأة، وهو يروي حكايات الصيد القديمة تلك، بصوته المماثل لصوت الحكواتيين الشعبيين. أنظر إليه وهو يبدأ بالتركيز على التلفاز مرة أخرى. أختلس نظرة إلى التلفاز؛ الأخ إركان يُعدّ قصبة الصيد، القصبة محنية، أقول: "أوه.. يا صديقي.. لم تمر حتى خمس دقائق منذ تحريرك". يجيب أبي: "لا.. ليس الرئيس هذه المرة".

تنغلق أجفاني ببطء، شيئاً فشيئاً، يغلبني النوم وأنا في كامل الوعي، وهذا أمرٌ غريب. في حلمي، أجدني جالساً بجانب البحيرة، معي الرئيس. ننظر إلى البحيرة من وراء البوص. أنا أنظر إليها وأسميها البحيرة، الرئيس ينظر إليها ويسميها الوطن. أسأل: "بعد إذنك اسمح لي بهذا السؤال.. كم عمرك يا رئيس؟". يجيب الرئيس: "لا أعرف، لم أعدّ، ومع ذلك أنا هنا مذ كانت الأرض كلاً واحداً يدعى الأرض الأم". أستهجن كلامه.. بوو.. وأقول: "ما الذي تتحدث عنه؟".

- يقول الرئيس: "يبدو أنني أتذكر أول قطرة مطر تسقط على البحر"، فأردّ بما يشبه: "يا رئيس.. هذا أمر لا يُصدّق، ذاكرة سمكة تدوم محتوياتها ما بين 5 و6 ثواني. أنت تخدعني. أي أرض أمٍّ.. وما إلى ذلك؟".

- "من يقول هذا؟".

- "ألا تعرف من؟ افترض أنهم علماء سويسريون".

- "ماذا يقولون؟".

- "لا تعمل ذاكرة سمكة إلا لمدة تتراوح بين 5 و6 ثواني".

- "من يقول؟".

- "لا تتلاعب بي يا رئيس".

- يقول: "لا.. ولكنك قفزت وغصت في هذا بسرعة مثل كائن إنساني، لا ضرورة للاعتذار".

- أقول: "وماذا يعني هذا؟ العبارة الأصل هي القفز والغوص مثل سمكة".

- يقول: "يمكن أن تنطقها هكذا، نحن نقولها بهذه الطريقة".

- أقول: "أي نوع من السمك هذا يا رئيس؟ السمكة تأتي من أجل الغذاء، إلى لباب العجينة في الصنارة. ما الذي يقفز من أجله الكائن الإنساني، ولماذا؟".

- يقول: "نحن نأتي من أجل خبزنا، لماذا تقفزون في البحيرة؟ هكذا الناس، في أي وقت يجدون فيه بركة ضحلة موحلة يقفزون فيها".

- أقول: "أنت على حق يا رئيس، مع ذلك يحيّرني شيء ما؛ إركان هذا يصطادك في غالب الأحيان، فإن كنت بهذا الذكاء الوافر، فلماذا تجيء إلى قصبة الصيد في كل مرة؟".

- يقول: "أنا أعرف اليوم ذاته الذي جاء فيه إركان إلى هذا المكان، وأول لباب عجينة رماه في البحيرة، ولو لم آتي إلى قصبة صيده فسيفعلها أطفالي. لا يمكنك فهم هذا؛ قلب أب".

- أجبته: "أنت تجاوزتني يا رئيس.. لا أستطيع اللحاق بك. دعني أتركك للبحيرة، اذهب لأطفالك".

يمطّ الرئيس شفته السفلى، أنتزع الصنارة وأقول لآخر مرة، وأنا أتركه يمضي: "حماك الله. احذر أسماك إسرائيل، إنها مثل أسماك بيرانا المخيفة، تلك الأشياء المخادعة".

عندها نطق بهذه الكلمات: "هنا فرنسا يا ابني، هنا لا توجد سمكة من أسماك إسرائيل".

وبينما كنتُ ألوّحُ بيدي للرئيس، تلاصقت أصابعي. ألحس حلاوة العنب، وأستيقظ.

برنامج محطة التلفزة والإذاعة التركية TRT مفتوح على شاشة التلفاز:

مباراة التميّز لرابطة نادي الركبي.

- أقول: "أنا نمتُ يا أبي، حلمتُ بالرئيس".

- فيقول: "لا تستطيع رؤية سمكة كبيرة مثل هذه بعد اليوم بمعزل عن أحلامك".

أتفجر أسى وأنا أردّدُ كلمة "بعد اليوم".

- "أبي، أخبرني عن السمكة الأكبر التي اصطدتها".

ينظر إليّ مستديراً نحوي نصف استدارة، ويفهم كم أنا جاد. فيبدأ بالحكي مباشرة بصوت الحكواتي الشعبي: "أنت كنت في رحم أمك. في ذلك اليوم ذهبنا في نزهة إلى سد البحيرة.."، وأشياء مثل هذه..

ذات يوم أخبرني صيادٌ أن كلّ الصيادين كانوا كاذبين إلى حد ما. كاذبٌ أم لا، أبي حكواتي طيب.. ويعرف أفضل مني كيف تبدأ حكاية وكيف تنتهي.


* قاص وصحافي تركي ولد في سامسون (1991). درس العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة مرمرة. نشرت له دار نشر ديدالوس مجموعة قصص قصيرة بعنوان "ليس منقطعاً بل هو فارس" (2015). له مجموعة قصص أخرى منشورة تحت عنوان "ماذا حكى الأب كوركوت". يواصل الآن مع أصدقائه إصدار مجلة "بريد القصة".

** ترجمة: محمد الأسعد

دلالات

المساهمون