أكتبُ عن آشبري (1/3)

أكتبُ عن آشبري (1/3)

30 يناير 2018
(بوغدان-أليكساندرو ستانيسكو)
+ الخط -

في وقت ما من سنة 2000 أو 2001، أو ربّما في 2002، نعم، لا بدّ أنها كانت في 2002... لا، كانت في 2001، لأنني كنت لا أزال أعمل على أطروحتي في ذلك الوقت، واعتدتُ حينها أن أعتلَ معي أينما ذهبتُ ذلك الكرّاس الكبير، القديم بغلافه القرمزي المبرغَل وورقه المقشّش، الذي أكتب على صفحاته بقلم الرصاص، لذلك لابدّ أنه كان صيفَ 2001، عندما كنتُ أعيش مع صديقة في منطقة تيتان، المجاورة للمنتزه، ضمن مجمّع أبنية يعود نموذج بنائه إلى الفترة الشيوعية، مكوَّن من شقق خُصّصتْ للعمال غير المتزوجين.

في الحقيقة، ثمة مبالغة في القول إني كنتُ أعيش معها، لأنني في واقع الأمر كنت أمضي الليل في شقتها ذات الغرفة الواحدة مرتين في الأسبوع، أو ثلاث مرات على الأكثر. وسأبالغ إذا قلتُ إني كنت أعيش معها، لأنه في نفس شقة الغرفة الواحدة سكنتْ أيضاً أختها الأصغر وصديق مقرَّب إليهما، وأحوال الليالي التي قرّرتُ فيها الالتجاء إلى النوم هناك كانت تتزامن في أغلب الأحيان مع الأحوال غير المشابهة التي يعيشها أشخاص آخرون بعلاقاتهم مع فتياتهم في ذلك الحين.

كانت ملكية الشقة تعود لأحد الهيبيين، الذي كان يُكبرنا عمراً، في الحقيقة أكبر منا بكثير، شخص في الخامسة والثلاثين، ما يقارب عمري الآن، يدرس الآداب في الجامعة، نفس اختصاصي، وبعد المحاضرات يعمل في مركز كونيكس للاتصالات. كان يكسب دخلاً جيّداً ويفرط في الشُرب، ولذلك كان المبلغ الذي يجنيه من إيجار الشقة يذهب كفائض لم يستطع الاستغناء عنه في سبيل المزيد من الكحول.

كان مجمّع الشقق يشبه إلى حد ما الإصلاحية، بأروقته المعتمة والعفنة وساكنيه الأشباح الذين كانوا يفتحون أبوابهم كلّما تناهى إليهم وقعُ أقدامنا في الليل، ونحن نتلمس جيوبنا باحثين عن المفاتيح، ما كان يبدو عادياً في ذلك الحين. كانت غرفةً وحيدة طالما فاحت منها الروائح الكريهة للثياب المغسولة والجنس ودخان التبغ والكتب المهترئة، لكنها بالنسبة إليّ مثّلتِ الجنّةَ على الأرض.

والحقيقة أنني أيضاً كنتُ مفرطاً في الشرب، كأي أحد آخر، إن لم أكن أكثر إفراطاً منهم بقليل، لكن ذلك لم يعقني عن ركوب الحافلة عابراً المدينة على اتساعها في الصباح وحضور المحاضرات، التي أهرع بعد انقضائها إلى مكتبيِّ الصحيفتين حيث تدبّرتُ بالحيلة فترةَ تدريب فيهما.

بعد ذلك، أعود إلى مقهى أرجنتين المقام في الخلاء، وهناك أبدأ بالـ فيرني الإيطالي والبيرة، وفي النهاية، عند التاسعة أو العاشرة، أستقلّ الحافلة الكهربائية من الجامعة عائداً إلى منطقة تيتان. كلّ ما أتذكره من تلك الفترة بجلاء، بل في الحقيقة بمنتهى الإشراق، كان مدى السهولة التي اعتدتُها في النهوض صباحاً من الفراش، انطلاقة خَطويَ وأنا أتجه إلى مركز البلدة، والتفاؤل الذي منحني الإحساس بأن الآفاق تنفتح أمامي، الآفاق التي كانت وقفاً عليَّ، وعليّ فقط.

ليلاً، ينسحب كلّ ثنائيٍّ إلى فرشتهما وتتخافت الأحاديث رويداً رويداً في الظلام. كان يمكن للمرء سماع طشيشِ اللفافة الأخيرة بينما تنطفئ ببقايا البيرة في قاع الكأس ومن ثم، في نفس الآن تقريباً، ربما لرغبة تدّعي الاحتشام بدمج الأصوات التي نُصدرها معاً، نبدأ بممارسة الجنس، بما أمكننا من التكتّم، مناورة في التغطية على الآخرين؛ كنا نغوص في هاوية العتمة تحت الشراشف الرطبة، معتمدين بأذرعتنا على حيطان أبرد من الهواء، حيطان كانت رطبة أيضاً، ومتهتّكة كبرتقالات فُقدت في الظلام.

مع مطلع الصباح، تبدأ الشمس برشق فرشتي بأشعتها، باعثة الدفء في قدميّ أولاً، ثم صدري، قبل أن ترتفع إلى وجهي، كيدٍ دافئة، حميمة، لعوب. سكنّا في الطابق السابع ولم يكن يبعث فيَّ السرور أكثر من ارتشاف قهوتي على الشرفة المزججة والتحديق الذاهل في أبنية الشقق السكنية ذات الطبقات الأربع المقابِلة، التي اختفى وراءها السوق، وفي الجهة اليسرى، حيث عرفتُ أنها بداية المدينة، على الطرف الآخر من حديقة الـ I.O.R.

وعلى عكس نشوة المساء المنصرم، وقد تبددتِ الآن ما بين حُقَنِ الطاقة والعبوات البلاستيكية، يُداخلني اللحظةَ الإحساس الشفيف بأنّي لم أزل شاباً وأن أمامي كثيرَ التقاطعات، والعقَد الطرقية التي تفرّعت عنها شوارع بلا نهاية، كلٌّ منها يؤدي إلى خيار لي، وربما من هذه النقطة أيضاً تأتي تلك الغبطة المكتومة: حقيقة أنني أستطيع إلى ما لا نهاية إرجاءَ الخيار، الأمر ذاته ينطبق على أني أستطيع إرجاء التركيز على كتابة أطروحتي عن جون آشبري، التي لا تزال في مرحلة التخطيط المثير؛ لقد حكيتُ فيها أكثر مما اشتغلتُ في الواقع.

كنت أعيش المفارقة، التي غمرني الجذلُ خلالها، وطريقة تقديمي لها في مثل هذا العمر، ومتى أتغلب على التعثّر في سخفي: فبينما أقرأ في البيت الكتّاب اليساريين من رسائل السجن لـ غرامشي إلى محاضرات المنحرف Abnormal لـ ميشيل فوكو، في شقة الغرفة الواحدة التي استأجرتها الفتاتان المستهترتان، البوهيميتان، العاملتان، استغرقتُ بكليّتي في كتب الأدب التي تركها صاحب المكان، والمرصوصة على رفوف غطّت جداراً واحداً في الغرفة، معظمها مؤلَّفات كتبها جماعة مدرسة بالتينيش اليمينية، مع أن أياً منها لم يبدُ لي مسعوراً، لأنني عند المساء كنتُ أخرج برفقة الفتيات إلى مقهى رصيف اسمه Fat Man's قرب محطة المترو، حيث كنّا نشرب ونتضاحك حتى موعد الإغلاق.

ثم نعود أدراجنا إلى شقّة الغرفة الواحدة، بيدٍ نتلمس طريقنا بمحاذاة جدران الرواق المظلم وبالأخرى حاملين عبوات البيرة البلاستيكية. نستلقي على فرشاتنا، وكأننا في مستودَع فحم، وكلّ منا يحملق في رؤوس لفافات تبغ الآخرين المتوهّجة وهي ترسم قوساً في الظلام.

كنتُ أغفو وأنا أفكر كيف أشرع بالكتابة عن آشبري وكيف ستسير أحوالي إلى التحسن مع التزامي بالغاية التي وضعتها نصب عيني. كان فصل الصيف. وفي الخارج أمكنك سماع الفتية في طريقهم إلى بيوتهم، ربما عائدين من المنتزه، من حديقة على شطّ البحيرة يقدم مقهاها البيرة، أو لعلهم كانوا عازفي موسيقى، أصدقاء الفتيات، الذين يكسبون العيش بالعزف في مقهى أرجنتين الخارجيّ، ولديهم نسخة من مفتاح شقة الغرفة الواحدة وكانوا يدخلون أحياناً في هدأة الليل ليبحثوا بين المخدّات أو في الحمّام، حيث يعرفون أين يُحتفَظ بحُقَن الطاقة، إنه الصيف وكلّ طاقة فتوّتهم كانت تتطلّب غرزها في أوردتهم وربّما كان ما يحقنونه هو الـ آشبري الخاص بهم وقد احتوى كلَّ رطانة المستقبل الذي قد لا يقيض له أن يكون مشرقاً أمامهم.

ذات سبت، وكان الجميع في الخارج - آدي، الذي كان موظف مبيعات، ويرجح أنه ذهب إلى شغله، وربما قصدتِ الفتاتان المدينة - نزلتُ إلى الشارع، ابتعتُ ليترين من بيرة تيميشواريانا المثلجة وعلبة تبغ، واستعدتُ في ذاكرتي تفاصيل الليلة الفائتة. سرعان ما بدأ داخلي يجيْش، كنتُ طنجرة بخار خارقة، فانكببتُ على كتابة قصيدة طويلة مقفّاة عن الأسماك وبحيرات الصيد والمياه المستنقعية النائية، وأحببتها للغاية لدرجة أنني عزمتُ على خَطِّها بقلم أخضر ذي رأس مدبّب على حيطان الشقة.

توقفتُ عن التدخين وتجرعتُ زجاجةَ بيرة أخرى، وأنا في أوج متعتي بما أقوم بإنجازه. وهكذا، أنهيتُ كتابة كامل القصيدة في كرّاسيَ، ثم مضيتُ وأحَلْتُ لون الجدران أخضرَ، أحضرتُ السلَّمَ من الحمام وشرعت بالكتابة على السقف، ورأسي مائل إلى الخلف، كما فعل ميكيل-أنجلو في كنيسة سيستينا. ثم فكرتُ كيف أستظهرُ الدُّرَاق، مثلما حدث له، كما يقول في إحدى سونيتاته، لكنني تذكّرت أن تضخّم غُدّته الدرقية سببه اليود في مياه توسكانا.

حين عادت الفتاتان، ذُهلتا، لكن في النهاية أحببتا الفكرة ثم شرعتا بمد يد العون لي. خرجتْ إيوانا لتأتي بالمزيد من البيرة. وتساءلت تانيا أخيراً، بالمناسبة ماذا سيقول سيزار صاحب الشقة، وأجبتُ بأنني لا أهتم بما يفكر به، لأنني كنت أكتب عن جون آشبري، ولم أعمل لدى كونيكس، ووافقت الفتيات، رغم أن إحداهما كانت مُحاسِبة والثانية متخصّصة بالرياضيات، ولم يتسنَّ لهما قراءة ما يكفي من آشبري.

بطاقة: ولد Bogdan-Alexandru Stănescu عام 1979، وهو شاعر وكاتب ومترجم روماني، يعمل أستاذاً في جامعة بوخارست. له في الشعر: "حين، بعد المعركة، التقطنا أنفاسنا" (2012)، و"آناباسيس" (2015). وكتابا مقالات: "ما الذي يبقينا بعيدَين، رسائل من نزل مانوك" (الصورة، 2010)، و"أدخلِ الشبحَ، رسائل متخيَّلة إلى أوسيب ماندلشتام" (2015). ترجم أعمالاً لـ تينيسي ويليامز، وجيمس جويس، وساندرا نيومان، وألبرتو مانغويل.

* ترجمة: أحمد م. أحمد

دلالات

المساهمون