مدينةُ أبي سعيد

مدينةُ أبي سعيد

16 يناير 2018
مياسة السويدي/ البحرين
+ الخط -
897. البحرين

من أبي الفتح إلى أبي علي

"على الرغم من أن هذه الرسالة متأخرة جداً، إلا أنها صادقة للغاية، وهي إلى صديقي أبي علي، الذي أتمنى أنه لم ييأس في انتظارها، ولم يُعلن الحداد على صديقه المخلص أبي الفتح.

أما بعد،

أبا علي المحترم، لم تتوقّف المغامرات، الجيّدة منها والسيئة، عن إغوائي منذ تلك الساعة البعيدة التي غادرت فيها بغداد. من أين أبدأ؟ ابتغاءً للبساطة، سأروي لك الأحداث بترتيب حدوثها.
لنمرّ سريعاً على سفري إلى البحرين. لحقتُ "ولد" دون التوغل كثيراً في نجد. لم ألقَ في طريقي أحداً ضلّلني، ولا وحوشاً ضارية وجائعة، ولا أفاعي ماكرة، ولا قطّاع طرق، إلا أني صادفت بدواً يصبحون ظرفاء جداً، كلّما رنّ في آذانهم صوت الذهب الذي يجلّونه. لقد كان ضعفاً مني أن اعتقدت أن "ولد" كان سعيداً بلقائي مجدّداً، ورؤيتي وأنا أشاركه ما يسمّيه بفقر مخيلته البائسة "حياة جديدة".

[...]

أخالني أسمع أسئلتك، يا أبا علي، وسأجيب عنها. لكن، أرجو ألا تكون عجولاً، وأن تدَعَ ريشَتي تَغرِف كما تشاء من متاهة ذاكرتي، ذلك أنّي لن أرغمها على شيء.

جزء السفر الثاني كان أيضاً خالياً من أي منغّصات، غير أننا عانينا من إزعاج مُرشدنا، الذي كان بحق مرافقاً سيئاً جداً، إذ إن له اقتضاباً وشحّاً في الحديث لم أر له مثيلاً من قبل. إنه من نوع البشر الذي إن أنت سألته من أين أتى، وإلى أين هو ذاهب، أجابك: "جئت من مكان ما، وسأذهب إلى مكان آخر". أظن أنه يمكنك الشعور بمدى إحباطي من أمر كهذا، أنا الذي لا يستطيع فمي لجمَ أسئلتي الكثيرة إلا بصعوبة.

ما الذي لم أكن أريد معرفته عن أبي سعيد ومدينته المثالية؟ كنت في الحقيقة أريد معرفة كل شيء، لكن كان عليّ أن أبتلع تساؤلاتي وأن ألجم رغبتي في الاستقصاء، في انتظار أن أصل ثم أرى.

هنا، أحسّ بك وأنت تشتعل فضولاً، وتقلّب الأوراق بشكل محموم. لكن، بالله عليك، وإكراماً للِحيَتي، ألا تتساءل، هل سيتحدث أخيراً هذا الملعون الثرثار المدعو أبا الفتح؟
حسناً، سأخبرك بكل وضوح. كان انطباعي الأول سلبياً بشكل تام. عند رؤيتي للقطيف، وأنا سعيد بوصولي أخيراً، لاحظت والدهشة تملؤني أنّ مرشدنا أدار لجامه متّجهاً صوب الجنوب، في طريق دائري حول الواحة. فعلى الرغم من الادعاءات التصويرية التي تعج بها بغداد عن القطيف، إلا أن أبا سعيد لم يدخلها.

[...]

كان هذا انطباعيَ الأوّل. أما انطباعي الثاني، فكان سلبياً أكثر من سابقه. والسبب متعلّق بالجنابي نفسه. تخيّل أن يكون هذا المُحارب، المحبّ للعدل، الذي أوشك أن يكون نبيّاً، رجلاً ضعيف البنية، يكابد خللاً بدنياً لا شبيه له عند أي محارب؛ إن الرجل مشلولُ الجانب الأيسر كليّاً. حتى أنه عندما يخرج في حملة ما، وجب رفعه بشكل مؤلم جداً فوق دابّته، ومن ثمّ مساعدته على النزول المؤلم أيضاً.

أما على الأرض، فيبدو أنه لا يستطيع التحرّك بمفرده. تبدو كل حركة من طرفه الأيمن بطيئة بشكل مؤسف، وكأن جانبه الأيمن يعبّر في كل حركة على تضامنه مع الجانب الأيسر الضامر. هل أقول وأنا أراه الآن، كيف لرجل مثله أن يُغير ويحارب؟ هل يستطيع رجل كهذا أن يُرسي حكماً عادلاً؟ أم أنه لا يعدو أن يكون حاقداً، كونه ضحية هذا العجز غير العادل، وهذا التشوّه الخارج عن الطبيعة؟ هل أستأنف حديثي؟ أم أتوقف عن أحكامي المسبقة؟

حاولت إذن أن أستقصي. جُبتُ المخيّم الذي كنّا فيه، والقرى المجاورة، وبعض الأميال على طريق القوافل، ومستودعات البضائع، وبعض الموانئ الصغيرة على ساحل بلاد أبي سعيد. كنت أصيخ سمعي، وأدرس، وسأقدّم لك هنا نتائج هذا الاستقصاء الدقيق.

لقد افتريتُ كثيراً على أبي سعيد، حينما لم ألتقط منه بداية سوى حالته البدنية المؤسفة، إذ إن لهذا الرجل، في الحقيقة طاقة وقوة نادرة، وذهناً صافياً، ومثاليات عالية، وأخلاقاً صارمة. وسأروي لك هنا ما أنجزه في المنطقة الجغرافية التي يسيطر عليها، وأعدك أن أكون دقيقاً، إذ إن طبيعتي المعتدلة الميّالة للاتزان، تُبعدني عن التضخيم.

لقد أرسى أبو سعيد نظاماً مشاعياً، والقصد من هذا الأمر الخارج عن العادة: كل شيء، كل شيء في الإطلاق مشترك بين السكان. ما يربحه الرجال في عملهم في الأرض أو في تجارتهم، وما تجنيه النسوة وهن يحِكنَ الصوف، وما يربحه الأطفال أيضاً من الأعمال الصغيرة التي يقومون بها وتناسِبُ أعمارهم؛ كل هذا يعود بشكل متساوٍ إلى الجماعة.

ففي كل قرية، هناك رجل معروف بنزاهته يقوم بحساب هذه الأرباح، والاحتفاظ بها جنباً إلى جنب مع ممتلكات سكّان القرية، بما في ذلك مواشيهم، ويتكفّل فيما بعد بإعادة توزيعها على كل فرد منهم حسب حاجته، كما يقوم بالتكفل بكسوة العراة منهم. ولهذا، فلا أحد منهم يمتلك شيئاً مادياً ما عدا أسلحته، فيما تعتني الجماعة بالجميع.

فعندما يفتقِر أحدهم، يُقرَض قدراً من المال لمساعدته على إعادة عمله. وعندما يأتي غريب ليستقرّ في القرية، يُعطى قدراً من المال ليشتري لوازم مهنته. وحين يتحسّن حالُ هؤلاء، ويستطيعون، فإنهم يعيدون هذه المبالغ التي استلموها دون أن يضاف عليهم أي درهم فائدة. والنتيجة ألا أحد هنا معوز، والفقر غير معروف.

ألا تحسّ يا أبا علي بنوع من الشك في ما أقوله، على الرغم من تعاطفك الذي كنت تبديه دائماً مع "الدعوة الجديدة"؟ ألا تفكّر في أن هناك بعضاً من التزوير وليد مخيلتي في ما قلتُه؟ لا يا صديقي، كل ما أرويه لك ليس إلا ثمرة مشاهداتي، فأنت تعلم مقدار الشكّ الذي أتمتع به، وأنني لا أصدّق إلا ما أشاهده بأم عيني.

سترد عليّ: كيف يمكن لمجتمع كهذا أن يكون ممكناً؟ هل يستطيع الإنسان أن يتخلّى إلى هذا الحد عن مصلحته الشخصية؟ هل يمكنه أن يترك إلى هذا الحد الأنانية التي جُبِلت عليها الطبيعة الإنسانية؟ سأقول لك: نعم، هذا ممكن. فمنذ اللحظة التي يكون فيها معيشه اليوميُّ مؤَمّناً، يستطيع الإنسان التفكير في شيء آخر؛ أن يتناسى نفسه، ليولد من جديد في الجماعة.

لكن هذا الأمر لا يمكن له أن يتمّ، وبالأخص لا يمكن له أن يدوم، إلا بوجود نظام حكم خاص. ضع طاغية على رأس مجتمع كهذا، وسترى نتائج نعرفها جميعاً: سيستحوذ على الأملاك والمحاصيل، ويأخذ الشعب رهينة عنده في ما يشبه العبودية، وتاريخ الملوك يمدّنا بكثير من الأمثلة. من نرى على رأس هذا المجتمع الجديد؟ في حقيقة الأمر لا رأس له! أو بالأحرى له قمّة بأكثر من رأس.

دعني أفسّر لك؛ أبو سعيد لا يحكم لوحده، بل ضمّ إليه مجمَع شورى، حيث يعبّر الجميع عن آرائهم ويتناقشون في وِفاق مُلفت، تحترم فيه الآراء المختلفة، وتتخذ عبره القرارات في الشؤون الهامّة بشكل جماعي. على حد علمي، لا مثيل لهذه الطريقة في الحكم.

لكن ألا يمكن لنا أن نشكّ في هذه المجموعة الحاكمة، ونعتبرها زمرة من الانتهازيين الوقحين، الذين يتشاورون في ما بينهم، بغية استعباد الناس وسلب ممتلكاتهم؟ هنا يأتي التفكير بأنه من غير الكافي أن يكون الحُكم جماعياً فقط، وهنا تظهر فائدة البعد الأخلاقي الصارم عند أبي سعيد، كما أسلفت؛ القيم العليا المسماة بـ العدل، والخير، والتواضع، والإنصاف، والبساطة، وهي قيم معروفة في كل مكان، لكنها غير مطبّقة إلا نادراً، خصوصاً عند من يحكموننا، والذين يبرّرون ذلك بقولهم إنها قيم جيدة للشعب، غير أنهم - الحكّام - فوقها ولهم حاجياتهم الخاصة.

أبو سعيد بعيد جداً عن هذا، إذ يطبّق على نفسه أولاً ما يطلبه من الآخرين لاحقاً. فمن خلال هذه القدوة التي يقدّمها هو ومجمعه الاستشاري، يوجّهون الناس، وبالتالي يحكمون. فالناس، عندما يُحكَمون بهذه الطريقة، لا يمكنهم إلا أن يرضوا بهذا الطريق الخيّر، طريق العدل والسعادة والبساطة، والمساواة بين الجميع.

نقطة أخرى، تستوجب الانتباه يا أبا علي. وهي نقطة تخصّ الجزء المؤنّث من المجتمع، إذ تُعتبر النساء هنا جزءاً مهماً من المجتمع. فإذا نظرت عن قرب لواقعهن، لا تجد هذا الأمر مستغرباً؛ فهن يعملن كما يعمل الرجال، وعملهن مقدّر بشكل متساوٍ مع عمل الرجال، طالما أنهم جميعاً يرفِدون الصالح العام.

فتقديرهن، والاعتراف بمكانتهن لا يكون، والحال هذه، إلا نتيجة منطقية. علاوة على ذلك، وعبر تصوّر الإنصاف والمساواة الخاص به هذا، يشجّع أبو سعيد أتباعه على أن لا يتّخذوا إلا زوجة واحدة، بغية - حسب قوله - الرفع من سعادة الحياة والحفاظ على القوة البدنية التي يحتاجها المحاربون، بدل تضييعها في المبارزات العاطفية.

أقول يشجّع ولا يفرض هذا الأمر ضدّاً في رغبات الناس. بطريقته هذه تتقلّص تدريجياً صفوف الرافضين، ويصبح أبو سعيد متبوعاً بشكل واسع. وأقول متبوعاً لا مسموعاً، فالناس هنا، كما في كل مكان، يقتدون بالنموذج والمثال؛ إذ إن أبا سعيد له زوجة واحدة منذ سنوات، أعطته الكثير من الأولاد، ولم يتزوّج عليها، كما أنه لم يتّخذ لنفسه جواري.
هو ذا، عزيزي أبا علي، ما تغذّي به تأملاتك وخلواتك. بإمكاني أن أحكي لك أشياء أخرى عديدة، لكن أُفضّل أن نترك ذلك إلى فرصة لاحقة.

[...]

سأعطيك الآن، بعضاً من الأخبار الإضافية بخصوص "ولد"، وهو أمر يبهجك حسب ظني، لكن أرجو أن تسمح لي بالعودة إلى الوراء؛ إلى سفرنا رفقة مُرشدنا قليل الكلام.

كان هذا الرجل مصحوباً بمساعدٍ شاب أخرس مثله. صبيٌ ذو ملامح حادّة، بالكاد يكبر "ولد". لم أنتبه له بداية، إلا أني أحببت فعاليته وإخلاص خدمته. غير أنّنا، عندما اقتربنا من وجهتنا، ولاحت لنا الخيام، تابعت بصمت مندهشاً تحوّلاً غريباً: وقف الصبي على ناقته، ونزع عن رأسه عمامته، تاركاً شلّال شعره شديدِ السواد وكأنه جَناحُ غراب، ينسدل وصولاً إلى خصره، رافعاً صوته في الوقت نفسه بزغاريد أنثوية الصوت! فلتعذر حذلقتي يا أبا علي، لكني أمام هذا المشهد الاستعراضي، حضرتني أبيات امرئ القيس:

وفرع يزين المتن أسود فاحم     أثيث كقنو النخلة المتعثكل
غدائره مستشزرات إلى العلا     تضل العقاص في مثنى ومرسل

[...]

ستقول لي: ماذا عن "ولد"؟ سأقول لك أن تحوّله كان جذرياً تماماً كما كان المساعد الشاب. اتّسعت عيناه من الذهول، وعوّضت ملامحه المصعوقة هذه، تعابير الغباوة الشديدة التي هي خاصية كل حالة حبّ مجنونة، والتي كانت تظهر على الصبي منذ ضَعُفَ أمام الجميلة المستحيلة.

تعابير تعود بين الفينة والأخرى – عندما يجد لها وقتاً – إذ إنه هنا مقيّد كما كل الرجال القادرين، بتمارين مكثّفة وتدريبات يومية. وهي بالمناسبة تداريب طُرِدتُ منها سريعاً، بسبب فشلي الواضح في القتال، وكُلّفت بدلاً من ذلك بمهام أخرى، كتأريخ المعارك والغارات، وتدوين إنجازات أبي سعيد، الذي خصّني برعايته، وسمح لي بالتنقل كما أشاء.

أُنهي رسالتي هنا، عزيزي أبا علي، وأتمنى أن تجدك في همّة كعادتك. والسلام علينا جميعاً".


* مقطع من "مهرطقون" (Hérétiques (2013.
** ترجمة عن الفرنسية: معاد بادري

بطاقة: جوسلين اللعبي كاتبة وروائية ومترجمة. ولدت في ليون عام 1943 وانتقلت مع أسرتها إلى المغرب عام 1950، وفيه أكملت جميع مراحلها الدراسية في مكناس، قبل أن تتخرّج من جامعة الرباط. تزوّجت الشاعر عبد اللطيف اللعبي عام 1964 ورافقته في مسيرته النضالية. من أعمالها: "عُصارة الصبر" (2005)، و"مهرطقون" (2013)، بالإضافة إلى أعمال قصصية للأطفال وحكايا مترجمة عن الموروث الشعبي المغربي، منها "مشات حكايتي مع الواد" (2007).

في "مهرطقون"، التي نترجم مقطعاً منها في هذه الصفحة، قامت بجهد بحثيّ مضنٍ في تاريخ القرامطة وزمنهم، بالعودة إلى متون ووثائق تاريخية طيلة ما يقارب العقد من الزمان، كي تخرج بهذا المُنجز الروائي (لم يترجم بعد إلى العربية)، والذي يعيد بشكل تخييلي مع وفاء قوّي للشخصيات والأحداث والأماكن، تركيب مشهد تاريخي بُني فوق أحلام مثالية طوباوية، وحاول تأسيس دولة "اجتهاد"، وإن كانت غازيةً وفارضة نفسها بقوّة السلاح والمذهب، لكنها حاولت في الآن ذاته إرساء تجربة مساواة وعدالة اجتماعية، ربّما كانت استعادتها مفيدة في سنوات اضطرابنا العربي هذه.

_____________________

* أبو الفتح: شخصية تخييلية؛ مؤرخ وحكيم متجوّل.
** أبو عليّ: شخصية تخييلية؛ صديق أبي الفتح في بغداد.
*** ولد: شخصية تخييلية؛ طفل من الزنوج، نجا من مجزرة في "الأهواز"، تبنّاه أبو الفتح.
**** أبو سعيد؛ شخصية تاريخية، وهو أبو سعيد حسن الجنابي القرمطي، حاكم البحرين في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري.

المساهمون