كتابة النص الأخير

كتابة النص الأخير

30 اغسطس 2017
سندس عبد الهادي / العراق
+ الخط -

في الليل ماذا يحدث له؟ يسقط معروقاً مغشياً عليه، لم يمت تماماً، لم يمت لأنه بعد نصف ساعة سينهض ويطرق بيدين واهنتين رخوتين صدر عالم من بخار. كان يمكن له أن يموت ولكنه لم يمت، نام واستيقظ مصعوقاً من نهوضه كل صباح حيّاً. وبدأ نهاره بالتدخين، رجل منذ عشرين عاماً يحيا بطريقة تدعو للريبة، رجل لم تحتضنه الحياة كما لم يأخذه الموت، هذا ما يجعله منفرداً ومسترخياً على وتر مشدود أو العكس.

من كثرة ما فكّر في الانتحار سئم منه، يتنفس بأقل قدر من الهواء، اهتمامه بما تبقى من جسده يشبه تماماً إهماله للحياة. على أية حال هو ليس أكثر من نصف جسد... ظلّ مؤلّفاً من كومة عظام ومخاوف رممها ليل غاشم في غياب ما.. حضور موقوت.

السؤال هل فكر في الانتحار سابقاً؟!

الجواب هل مرّ يوم دون أن تقتحمه هذه الكلمة؟ أصبحت عادة، واستمرأ هو العادة، إنها تهبه متع وعناءات الرحلات الطويلة في وقت قصير جداً.

في التاسعة عشر من عمره حاول أن يرتكب موته، كانت محاولة ناجحة وفاشلة في آن، لأنها عصارة التجربة التي تخرج من الكتب، من الأحاسيس الغضة، (من براءات القطيعة التي ستتعقد رويداً رويداً)، والموت إرادياً لربما (تبرير خاطئ وضروري) يحتاج أدوات أكثر حسية، يحتاج الشبكات الناتئة للبيئات على تعددها، والتي تتداخل وتتخارج مع الذات إلى حد الكآبات المزمنة وما تفرضه من انفصال، في البداية انفصال ذهني ثم يتبعه انفصال حقيقي من لحم ودم، يتجلى عبر رفض ودحض الخارج الذي لا يتساوق مع الأنا، اغتراب وعدم قدرة على التماهي إلا مع فيوضات الاغتراب نفسه.

على أية حال كانت لحظة ناقصة غير مدوّرة تماماً تشبه عالمه. العالم هنا عكازة خربة لا تسند الجسد المنهوك للوصول إلى هناك.

وبدلاً من أن يعلق رأسه على حبل مشدود إلى السقف، إلى الرغبة في الخلاص، إلى لذاذات الفكرة، انشدّ أكثر إلى سقف أفكاره (أوهامه) المعلّق على مقصلة التجريد.

ينتج موته رمزياً عبر لغة سريعة، وبما تبقى له من طاقة يلم الفتات صورةً غير مكتملة، تصوراً ليس له أن يغزو، اللهم إلا عبر وهم الخرق بوساطة جملة يريدها بديلة.

الشك إلى أقصاه يعني الوقوف على حافة الحياة، تقليم سيزيفي لأظافر وأنياب تفور من الهوة، إنها خيبات المضي في عتمة العمق، حيث تتوالد الأبديات ممسوخة لترخي أشناتها غير المرئية على جسد يشيخ بسرعة بحجة الروح، إنها خطورة التعاطي مع مادة تجلياتها صارخة دون أن يكون لها شكل – الله – المطلق – الكلمة – الروح....... تنزاح ساحات المواجهة، لأنّ الجسد موئل الكينونة والغياب، وحيد.. وبعيد في بريّته.

منذ ذلك اليوم لم يبرأ، كلما أراد أن ينشدّ إلى الحياة ينشدّ إلى وهمه عنها، وكلما أمعن في الوهم ربح جثة تتنفس في عتمة ما، وأكد المحاولة السابقة بتكاليف باهظة لكنها تبقى قليلة، لأنها تتراكب وتتراكم أمامه، لا يني يعدّها ويخطئ بالعدّ، هو صانعها وضحيتها، وأيضاً لأنه ما زال في مواجهتها.

فكرة الانتحار حتى الآن مؤجلة وربما ستبقى، إنها مثل الزمكان المحلوم به، مثل الحياة في المستقبل. أخطر ما في العلاقة مع الموت هذا الاجتهاد المحموم الذي ينتهي إلى الكسل، إلى عطالة مشحونة بالتماعات الكمون، بلحظات مفترقة لا تذهب مع الزمن، ولا تصنع زمنا آخر. ولكنها تقترح منصة لا تطل على جمهور، يقف عليها المبدع الميت المؤجل، وبدلاً من أن يقذف نفسه في العتمة/الفراغ، يرمي ارتجافاته وخسرانه على هيئة كلمات لا تتوخى مصيراً.

كل الأفكار إلى البطلان، حتى فكرة الانتحار، كأن الحياة غنية إلى هذا الحد الذي تحتمل فيه نقيضها (عدمها)، من خلال ظواهر لا تحصى، وأشخاص قليلين يستنفدون أنفسهم وهم يحاولون حدودها القصوى. أبناء الأسئلة الصعبة، سليلو الألوان التي تتكاثف وتنتهي إلى الرمادي، العاشقون المرضى الفاشلون (بالمعنى العريض للتعبير).

من يفكر بالموت كثيراً أكثر كسلاً من أن يسجّل أفكاره، الذين فعلوا أنتجوا شهادتهم تحت ضغط اللحظة ولتأجيل النهاية قليلاً. الذين انتحروا حلّوا مأزقهم الأخلاقي، وساقوا اللاجدوى إلى معناها، أما الذين يشتبكون مع الموت يومياً، الموتى الرمزيون.. رهائن الانتظار والخوف يتوهمون الأبدية، يتكسرون جملاً في خلواتهم جملاً مرهونة للمعايير، والاحتمالات التي سينتجها المستقبل. ارتباك لن يحلّه سوى الاستسلام للحظة النهاية المحتومة.

عدميّ ربما بامتياز. عدمي ناقص لأنه ما زال يحيا في الظل الشاحب للموت تتقاذفه الأوهام أكثر مما تتقاذفه الأفكار، هش وصلب في تناوله لكل الأسماء.. الأشياء. قادر على السخرية من أي منجز، قادر على مساءلة كل القضايا دون أن يركن ليقين، خاتماً حماسته الرخوة بالبكاء آخر الليل وحده. إنه لا يؤمن بشيء أو أنه يؤمن بـ"مثال" غير قابل للتحقق، مثال كلما سقط في صورة تهشمت الصورة.

الخيبة مؤدّى العلاقة مع المستحيل، ثم الارتداد، الانسحاب، الصمت. تلك القنوات المفتوحة على الموت اسماً وحجاباً. ولأن الاختلاط بالعالم قائم على مستوى أو آخر، ما دام الجسد لم يهتد إلى السكون الكامل، تطرح الذرائع نفسها في سياق عمل ذهني يشتد وينقبض لينتهي إلى مسوغ يحمي استمرار الجسد إلى حين.

الذين ينتحرون مبدعون، لأنهم يأخذون حقيقتهم معهم تاركين للأسرار أن تنبت افتراضات لا تنتهي في تربة الآخر. لأنهم كتبوا نصّهم الأخير دون هوادة، وبما يملكون (حياتهم). أصدقائي الذين لا أحسد غيرهم، الذين لم يعودوا ليرهقوني بوجودهم، الذين سِيرهم وأوهامي عن سِيرهم تخرّب سيرتي، الذين وهبوا لي مقطعاً قصيراً من مرورهم النبيل، سيبقى قابلا للتأويل إلى ما لا نهاية.

كنت أتمنى لو أستطيع أن أكمل، هناك أشياء كثيرة يمكن قولها تستحق كتاباً.. كتباً.


* شاعر سوري مقيم في نيويورك

دلالات

المساهمون