هل العودة ممكنة؟

هل العودة ممكنة؟

28 فبراير 2017
("عودة الابن"، تاديا يانيستش، صربيا)
+ الخط -

أربعون عاماً مرت على آخر زيارة لي للبلد. في البداية كان لا بدّ من أن أتكيف مع وضعي الجديد كبدويّ أقام في المدينة. عليّ أن أجدّ في عملي لكسب ثقة الرؤساء وودّ الزملاء. وعليّ أن أتعلم اقتناء البدلات؛ واختيار ألوان ربطات العنق؛ والعطر الملائم للفصول؛ وتلميع الأحذية، وتناسق الألوان.

ثم عليّ أن أتعلم رسم البسمة والرّضى على المحيّا في جميع الحالات. أن تنجح هو أن تستطيع العمل ضمن المجموعة، قال لي أقرب الزملاء ذات فطور أديّتُ ثمنه.

كما عليك أن تتقبّل معاييرها، وعليك أن تنتمي إلى شبكة ما؛ جمعية أو نادٍ أو حزب أو طاولة في مقهى. ثم لا بدّ أن أبني داراً، قبر الدنيا، بلغة أهل المدينة، لا يمكن أن أبقى في دار الكراء طول العمر، خاصة بعدما كبر الأبناء وأكملوا دراستهم. بعد كل ذلك عملت على كسب ودّ الجيران وأصدقاء النادي. واستقر الحال وأصبحت ابن مدينة ليس بالتاريخ، ولكن بالرغبة والمنافع.

بدأت أسوّف وأختلق الأعذار؛ أشغالي الكثيرة في المكتب؛ وجلسائي في المقهى؛ وقراءة الصحف، وتتبع المقابلات. كل ذلك يؤجل تفكيري في الرحيل. إلا عندما أستعد للنوم، حينذاك تنساب الصور أمام عيني واضحة كمرآة.

في كل صيف أفكر في العودة ولو لأيام، لكن الأبناء يصرّون على رحلة الشمال. الجنوب غير محتمل في الصيف يقولون، اذهب أنت إذا شئت. ومرت السنون وغزا الشيب مفرقي؛ وبدأت أشعر بوجود مفاصلي؛ وأصبح الزكام يغلبني؛ ولم يعد العمل يفرحني، وفارقت المقاهي. لقد أصبحت المدينة جدّ ملوثة؛ وعلا الضجيج كل مكان؛ ورحل من الأصدقاء إلى الله من رحل؛ والتصق الباقي بهموم صغيرة منفّرة.

وذات مساء قررت الرحيل. وفعلتها.

تحيرت في البداية بين أن أسكن دارنا العتيقة أم أكتري منزلاً، أم أن أقيم في نزل حتى .وبعد مشاورات قررت العودة إلى الدار القديمة. مرت الأيام الأولى كأني في حلم، بعد كل فطور أخرج إلى المزرعة وأتنفس الكون. المزرعة لم تتغير في ما يبدو. تعرفت حتى على النخل والزيتون والأثل. وملأت النشوة كياني، واسترجعت بعض حبوري الطفولي.

وبدأت أتعرّف على الناس، وأعيد معرفة العلاقات السلالية، والتي بالمصاهرة والتي بالجوار. قلت أزور المقهى الوحيد. كان الشباب ودوداً ويلعبون الكرة الحديدية كل مساء. وبدأ التواصل بطلب الهويات. ولما كثرت الأسئلة شعرت بإزعاج الروّاد، وليس في القرية مقهى آخر. هذا ما يميز المدينة، إنه الاختيار. يمكنك أن تغير كل شيء في المدينة، الأمكنة والناس والحقيقة.

ثم بدأ الناس يتساءلون وماذا يريد هذا "البراني" منّا نحن الفقراء؟ ربما يترصّد أرضاً أو منفعة. أو يهيئ نفسه للانتخابات.

عندما أمر وأسلّم يرد بعضهم والآخر لا يرد. وفي المدينة كلّ يصنع عقيدته ويمضي. لقد تغير كل شيء، فقريتك لا توجد سوى في الأحلام. ارحلْ.


دلالات

المساهمون