الانقلاب

الانقلاب

27 فبراير 2017
صلاح الدين بولوت، تصوير: هوزان أدار
+ الخط -

كعادتهم، كان جنرالات الجيش قد قاموا بانقلاب جديد، وضاعفوا خوف سيدو بِرو من العسكر. كان الخوف قد غرس مخلبه عميقاً في قلبه ودماغه، وأمعن في تقييده. كُل شيء تحوّل إلى أطياف عساكر الجيش؛ أكوام الحجارة في الحقول، طيف البساتين وحتى الأشجار والشجيرات المحيطة بالقرية.

كلّما سمع صوتاً، تخيّله كوقع أقدام العسكر، فيفزع. كلما تحدّث شخصان همساً أو بصوت خفيض أمامه، ظنَّ أنّ قرار اعتقاله قد صدر، وأنّ هناك ما يخفيانه عنه. أنساه الانقلاب العسكري نفسه وبهجته، حتى إنّه هجر فراش زوجته، ومنذ الانقلاب لم يرخ زنّارهُ لحلال أو حرام.

كان يعتصر ذاكرته علَّهُ يتذكّر بعض الجمل والكلمات التركية التي حفِظها أيام تأديته للعسكرية: "مرحباً أيّها العسكريّ، المهمّة الأولى، الهدف الأول، كل شيء لأجل تركيا، كل تركي يولدُ جندياً، احمدوا الله". كان يردّد تلك الجمل والكلمات مراراً، محتملاً أنّه قد يحتاجها فتنقذه حينها.

مساءً، كان يجلس ساعات طوال، مدخّناً سيجارة تلو الأخرى حتى يحلّ عليه الصباح. وإذا غفا قليلاً، كان يحدّث نفسه في المنام بصوتٍ مرتفع، منهياً كلامه بجملة: "أمرُك سيدي!".

كان سيدو بِرو يعيش مع زوجته، وأمّ زوجته وأطفاله الأربعة في قصر قديم مهجور. كان القصر عالياً، ذا باحةٍ واسعة وقبّة تُشبه قُبَب الجوامع، ولم يكن أحدٌ غيره ليرغب في العيش في ذاك القصر، ذلك لأنّه مهجور وذو صدى مخيف.

حين تحدّث سيدو بِرو بالتركية في منامه، كان الصوت قد تدحرج في أزقة القصر، ارتطم بالجدران والقبة وعاد إليه صدى مخيف، فظنّ أنّ العسكر قد صرخوا في وجهه فهبّ فزِعاً من نومه. الكلمات التركية قد طرقت أذنَي زوجته أيضاً، فهبّت بدورها خائفة. اقتربا من بعضهما وأصاخا السمع، ثم مشيا خلسة صوب النافذة. نظرا إلى الخارج فلم يلفيا أحداً. حبسا أنفاسهما وأصغيا ثانية فلم يسمعا غير صوت ليالي الخريف الصامتة. وقفا مندهشين، كانا متأكدين من سماع صوت الكلمات التركية، لكنّهما كانا عاجزين عن معرفة المتحدّث الذي اختفى فجأة. استدارا ونظرا إلى بعضهما البعض بعيون خائفة تفيض عنها الأسئلة، ووجما في مكانيهما، ثمّ حملتهما أقدامهما صوب غرفة نوم الأطفال.

الأطفال بدوا نائمين أزواجاً ومكدّسين فوق بعضهم البعض، أرجل البعض ممدودة صوب أنوف البعض الآخر، يركلون ويرفسون، وكلّما تحرّك الأطفال في نومهم، أو حكّوا أجسادهم أو أزالوا اللحاف عن أجسادهم، أو غيّروا وضعية نومهم، كانت رائحة كريهة تفوح منهم وتلتهم هواء الغرفة.

غطى سيدو بِرو أنفه بيده والتفت إلى زوجته قائلاً: "أطفالكِ سدّوا فتحات أنفي برائحتهم الكريهة، مؤخراتهم رخوة! أيقظيهم، افعلي شيئاً، رشّي بعض العطر على نار الموقد، إنّهم مثلك تماماً! إذا جاءنا العسكر الآن، ألن يسألونا عن هذه الرائحة الكريهة!؟"

لم ينهِ سيدو بِرو كلامه حتى سمع صوت بضع كلمات تركية من غرفة نوم أم زوجته؛ اندفع الصوت كطلقةٍ ارتطمت بقبة القصر، ثم أكملت مسيرها من جدار إلى آخر حتى تسلّقت قدميه. هبّت المرأة العجوز من نومها مذعورة من وقعِ صدى الكلمات التركية، فظنّت أنّ العسكر قد داهموا المنزل، وسارعت صارخةً صوب الصندوق لتختبئ خلفه.

قهقه سيدو بِرو بصخب، فمنذ حادثة الانقلاب العسكري، لم يكن وجهه قد عرف الابتسامة والضحك، ضحك بشدة وكأنّه أراد الثأر من الخوف الذي اعتراه، ضحك حتى كاد يسقط أرضاً. أخرسه الضحك المتواصل كخُذروفٍ رُمي على الصخر، خافت زوجته من حالته هذه، فلكزته عدة مراتٍ وتلمّست خواصره: "ماذا دهاك؟! ما هذه الضحكة التي اعترتك؟ كفى! استرح قليلاً، ستختنق!"

اهتز سيدو بِرو لشدة ضحكته، ثمّ هدأ. مرّر يده على عنق زوجته، وقال: "فلنذهب إلى السرير يا حرمة، لا شيء ننتظره هنا. يبدو أنّ أمّك قالت تلك الكلمات التركية التي سمعناها قبل هنيهة".

بعد أن تأكد سيدو بِرو أنّ الكلمات التركية التي كان يسمع صداها كلّ ليلة، ما كانت إلا كلمات العجوز أم زوجته، ارتاح واطمأن قلبه، فجأة تذكّر جسد زوجته الغضّ، استيقظت شهوته وحكّ جسده، وسّع ما بين قدميه، قوّم ظهره ومضت أصابعه نحو فتيل الزّنار.

في تلك الليلة، بنى سيدو بِرو بزوجته حتى نادى المؤذن لتكبيرة الصلاة. صباحاً، حين لبس سرواله، لم يشدّ الزّنار بل تركه مرخياً على خصره لا أكثر، وضع يديه خلف ظهره، فتح الباب برأس حذائه المدبّب وخرج، وداس على رجل كلبٍ كان قد استلقى في بقعةٍ مشمسةٍ بالقرب من عتبة المنزل. عوى الكلب ألماً حتى كاد صوته يشقّ عنان السماء. جَفَلت جميع كلاب القرية وهرولت هاربة، فرّ الكلب الجريح على قوائمه الثلاث السليمة ولم يلتفت إلى الخلف حتى غاب عن الأنظار.

من شاهد سيدو بِرو وهو يمشي في القرية ذاك اليوم، اعتقد جازماً أنّ الانقلاب العسكري قد فشل، وأنّ العسكر انسحبوا من القرية وولّوا هاربين، خائبين، نادمين؛ تاركين خلفهم الثكنات.


من الجنة الخرساء

غلاف "الجنة الخرساء"ولد صلاح الدين بولوت Salahattin Bulut في قرية ديريك على أطراف مدينة ماردين عام 1954. في 1981، اعتقلته سلطات الانقلاب العسكري في تركيا بسبب نشاطه السياسي، وسُجن ثماني سنوات في سجن ديار بكر العسكري.

من كتبه مجموعة قصصية باسم "الجنة الخرساء" (الصورة - ومنها قصة "الانقلاب")، ورواية "العاجز" التي ترجمت عام 2013 إلى العربية.

افتتح في 1997 أول مكتبة كردية (مَديا) في اسطنبول.


* ترجمة عن الكردية: عبد الله شيخو

دلالات

المساهمون