كأنها غيوم

كأنها غيوم

21 فبراير 2017
أحمد صبيح / فلسطين
+ الخط -

مرّت عدّة أيام على شرائي لحقيبةٍ مصنوعة من الجلد، وكعادتي رحت أفتّش الشيءَ الجديد الذي ملكته بعد طول انتظار.

كنتُ أدسُّ أصابعي في الجيوب الكثيرة مستكشفاً أو باحثاً عن أي شيء، لا أدري حقّاً، إلا أن مفاجأة غريبة كانت في ذلك الداخل الرّطب المعتم ذو الرائحة المألوفة، عندما سحبت بطاقة اسمية مصنوعة من الكرتون لكي أسجّل عليها اسمي وأُرجعها إلى الجيب الشفّاف، وقعت يدي على ورقة خشنة مطويّة تحت البطاقة، توحي بالقِدَم كنوعٍ من الإعلان للشركة صاحبة الاسم التجاري، لكنها ليست فارغة، بل هي رسالة من الصّانع الهندي إلى المالك الجديد أياً يكن، والذي كنته أنا.

"اسمي ريتو، نصنع الحقائب والملحقات الجلدية أنا والعائلة، ونعيش في شمال الهند، نعمل لصالح هذه الشركة منذ خمس أو ست سنوات حتى الآن. نملك الجلود الطبيعية التي نعالجها ونعدّ منها التصاميم، ثم نضيف اللمسة الأخيرة لنخرج هذه المنتجات الجميلة، التي تباع في كافّة أنحاء أوروبا. عملنا جيد ومستقر، يسمح لنا بإعانة كافّة أفراد العائلة وإرسال أطفالنا إلى المدرسة، شكراً لشرائك هذه الحقيبة.. ريتو".

مضت لحظات وأنا محاط بالذهول، حتى بدأت أتخيّل ذلك المشهد البعيد جداً، ريتو رجل أسمر تبدو عليه ملامح الطيبة، يجلس خلف ماكينة الخياطة في منزل متواضع في شمال الهند، يصنع لي الحقيبة التي أنتظرها في وسط ألمانيا، أولادٌ يثيرون الضجّة في الحيّز الضيق، وأحدهم يحاول العبث بحقيبتي، لكنّ الرجل الطّيب يحميها على الدوام.

تداهمني منذ ذلك اليوم أفكارٌ صغيرة متناثرة حيناً كحبّات سكّر، وحيناً آخر تأتي مجتمعة بحجم شجرة جوز معمّرة، كيف سيكون الحال لو أن للرسائل الورقية إدراكٌ أو ذاكرةٌ من نوع ما، كيف لورقة رقيقة أن تتحمّل كمّ الاعترافات المخزّن فيها دون أن تحترق من تلقاء نفسها، ماذا لو كانت الرسائل تحفظ دروبها..

محمّلاً بتلك الآمال، نويت في تلك اللحظات أن أبدأ بكتابة رسالةٍ طويلة جداً إلى أمي، أذكر فيها أن القمر كبير جداً هنا، يكاد يلتهم الأرض، وأن الثلج محشوّ بالحصى، وأنني توقّفت أخيراً عن البكاء، لكنني لا أزال أبحث بلا جدوى عن الوسائد الصلبة كالتي في منزلنا، فالوسائد هنا خفيفة، يختفي رأسي في داخلها، تخدعني فأنام دون أن أبكي.

محمّلاً بتلك الآمال مرّة أخرى، رسمتُ دربَ الورقة، خارجةً من منزلي إلى مبنى البريد، ومن ثم إلى مطارٍ ما في ألمانيا، لكي يلقيها عامل البريد ببساطةٍ في صندوقٍ كبير يكاد ينفجر من حجم الشّوق المقيم فيها وفي جاراتها من الرسائل، إلا أن كل شيء انهار دفعةً واحدة عندما تذكرت أن منازلنا في سورية بلا عناوين، وكأنها غيوم.

دلالات

المساهمون