قصائد الغريق والحمامة

قصائد الغريق والحمامة

07 ديسمبر 2017
("لوح ثلاثي"، محمد المليحي، 2017)
+ الخط -

الغريق

ماذا تفعل هنا أيّها الغريق؟
ماذا تفعل أيها الأخ؟
قبْلكَ حَلَلتُ بهذا السّاحل المُتاخم للمدينة،
جمعتُ محاراً،
ورمَّمتُ ما تحطّم من قلب الموجة على سور الحَانِ.
رأيتُ عُيوناً متداعية تحمل الرّيحُ شمعتها إلى منديل الأرامل،
عثرتُ على أقدام تُنقّل خطوَها، دونما زُخرُف،
فوق حُطام الزمن.
الباخرة من بعيدٍ، تستلقي على ظهرها كطفلة يُقمّطها الماء
وأنت تَقودُ نوارس زاعقة
إلى وليمة صغيرة:
منها، تنفلِتُ يَدٌ رطبة لم تعرف كيف تُبدّد غيمة الرّيش المُتداعية
فوق رأسي.
قبلكَ، جئتُ
بلا زادٍ ولا سلالٍ تطوي شتاءاتي الخمسين،
لكنّي عثرتُ على وجهكَ مُتعثّراً بالأبديَّة
يقودُ الناس إلى عنوان آخر للحياة!
أيّها الأخ
أيّها الغريقُ
ماذا نفعلُ هنا؟


■ ■ ■


الضيف

حلّ ضيفاً على جُملتي
واحدٌ من شعراء العمر القصير
لم يطرق الباب
لكنّي عرفته من خطوه المُنحني
ونظرته الشاردة.
لم أكُن تهيّأت لمبادلته بعض القهقهات
عن الليل
عن النهار
أنا أقلعت مُتأخّراً من الميناء
وهو حلّ باكراً بهذه الأرض
حامِلاً خمرةً في جوفه
وأشعاراً جافِلة
بين يديه.


■ ■ ■


ضربة فُرشاة

جمّعتُ الألوان ولم أمزّقها
شِريانُها موصولٌ بسُرّة الكلمات
وهي تُغنّي كلّ فجر
عندما يستيقظ الدّم
ويدفع بأجنحته في الهواء.
فُرشاتي تتعلّم من الغيمة والغُراب والتجعيدة والتُّفاح
ومن طعنة الفراشة
ترسُم الجرس واليد التي تحمِلهُ.


■ ■ ■


الحَجَر

فوقه تُقيم أبراج
تحته يَرقد موتى
من يَحمله إلى السّاحة، وينفخ في عروقه
نفَسَ الآلهة
سيُقيم طويلاً بيننا
نَمنحُه العنب الفمَ والأقداح
الطافية على الماء.


■ ■ ■


النظرة

الهواء يَسيلُ في ناي شجرة
جانحة بثمار كبيرة وضاحكة مثل أجِنّة.
السّائرُ على خيط روحه
هل يلتفت؟
هل تعرفُ ما جناهُ الموسيقي المكلوم وهو يُلقي
نظرةً حانية إلى الخلف؟
همسُ الحِجارة المسحوبة من أعطافها مع الماء الجاري
يُلقي بالفؤاد
أوجاع نرجس
ويُجري على اللّسانِ نشيج كلّ المَيِّتين.


■ ■ ■


اليمامة

هل عادت اليمامة
بقوائمها، حيث يَعلقُ بعضُ طينٍ، لتشرَب من كفّي؟
هل عادت من جبل شاهق رأيته في منامي يَشقّ الماء مثل باخرة؟
هل تمادت في التّحليق حتى رشفت عيونها كلّ الزرقة
وانتشى الرّيش بوميض الذهب
وخيوط الفضة؟
هل كانت تسمعُ دقّات قلبي وهي تجاور غيوم الله؟
هل تعلم شيئاً عن قدميَّ المُشبعتين بالبرد؟
هل تُحبّ أن تشرب ما يسهر قرب يدي من حبر؟
هل عادت حقاً بذلك الجسد الهش وبتلك الالتفاتة التي
لا تخشى الانكسار؟

أنا الطينُ الوحيدُ في هذه الأرض
فكيف تنظُرين في عينيَّ
دون أن تَرَي الكلمات متأهّبة لإعادة خلقي
على غير هيأتي المُعتادة؟

أيّتها اليمامة
هل تَقبلين بِأخٍ جديد
يَطيرُ إلى بيتك ببعض بقايا الطين في قائمتيه الورديتين؟
أيّتها اليمامة، أيّتها الأخت!


■ ■ ■


الصيّادة

دون أن تَكوني ديانا صِدتني
دون أن أكون أيْلاً اقتربتُ من نَبعِك
الأغنية طوت بيننا الجبال والغابات، وجعلتنا وجهاً لوجه
أنا أسفل، أجرجر قيودي مزهواً بقامتك الغامرة
أنت أعلى، تتلذذين بتسديد السّهم إليَّ
إذا أصبتني ظفرتُ بمِيتَةٍ على يديكِ
إذا نَجوتُ عُدتُ إلى أهلي بقصة الصيّادة التي تُعذّبُ العُشَّاق
بمجرّد النظرة
بمجرّد المشي في الطريق
بمجرّد لمسِ أوراق الشجرة
بمجرّد رمي بعض الحصى في الماء
بمجرّد التلويحة!


■ ■ ■


أعزُّ ما يُفقد

في خزانتي كتاب عنكِ
لكنّكِ أعمقُ من الكتاب ومن البحر
الذي يتهادى تحت الشرفة.
في لحظةٍ تغيمُ السطورُ، ويُمطِرُ البيتُ
أنا وحدي أتلقّف رسائل الماء
هو يمحو ما كُتبَ غيباً
هو يسقي كفّاً لا تلوي على شيء
في متاهة الليل، تتفتّح كوردة غريبة
لكنّ عِطرَها داخليٌّ، يَغورُ عميقاً في الأرض.
الخزانةُ لي
لكنّ أطيافها الصامتة
مِلكُ حَركتها الخاصة، التي لا يُقيِّدُها خيالٌ.
أنتِ في الكِتاب،
تتحوَّلين كالرمل في وحي بورخيس
ولا يَكفيكِ أن أهيمَ وراءَك في كل قفر
وأن أحُطَّ على كتفيكِ
كطائر نعّاب.
لا تبنيكِ الحِجارة
ولا يُعمِّر قلبَك الرّعد وثمرة الخلاء
أما الحِبر فيفزع إلى نفسه
ويقفُ مُتردّداً على البياض،
قصرِكِ العظيم، المُضاء بلَمباتِ العرّافين
والأنبياء الذين أمسكوا منذ دهور
عن الصمت والكلام.
أنتِ لا تُدرَكين
وأعزُّ ما يُفقَد دائماً.
خارج الموسوعات وخرائط البحار الغامضة
عميقاً في السطور التي لا تخترقها لغة، تأسرين "البحر والشمس"
وأمطاراً وصفحات مدهونة بالسُّم،
لم يُكتَب لأحد أن يعود منها
ليروي ما وقع.



بطاقة: نبيل منصر (الصورة) شاعر وناقد أدبي مغربي.

صدرت له في الشعر ست مجموعات: "غمغمات قاطفي الموت" (1997)، و"أعمال المجهول" (2007)، و"مدينة نائمة" (2009)، و"كتاب الأعمى" (2011)، و"غسق الغراب شفق اليمامة" (2014)، و"أغنية طائر التم" (2017)، الذي حصل على "جائزة المغرب للكتاب" في أيار/ مايو الماضي.

وله في النقد: "الخطاب الموازي للقصيدة العربية المعاصرة" (2007)، و"شعرية البجعة" (2011).

 

دلالات

المساهمون