رعبٌ آخر

رعبٌ آخر

28 سبتمبر 2016
شارل خوري/ لبنان
+ الخط -

في زاوية الأطفال، بحثتُ لابنة عمّي الصغيرة، التي تمكث عندنا هذه الأيام، عن كتابٍ يناسب سنّها. استوقفتني قصّة "فرخ البط القبيح" واستبشرت خيراً؛ فهذا الكتاب يعلّمنا كيف نتقبّل الآخر المختلف، هكذا فكّرت.

يصوّر العملُ مفهوم القبح في شكل فرخ بطّ أسود؛ إذ يروي قصّة فرخ بطٍّ يختلف عن باقي الفراخ. وبسبب اختلافه، ينصرف الجميع عنه، فيقرّر الرحيل، ليعايش أثناء رحلته أجناساً حيوانية وإنسانية ترفض قبوله هي الأخرى، فينتهي به المطاف رافضاً لذاته، حتى يأتي يوم يرى فيه انعكاس صورته على مياه البحيرة، فيُذهل من التحوّل الذي أصابه فيصرخ: من هذا! فتردّ عليه الأصوات: إنه أنت. لقد كبرت وتغيّرت، وغدوت بجعةً بيضاء جميلة مثلنا!

أفلام هوليود مشبعة بفكرة الكائن المختلف، سواءً كان ذلك بأفلام الكرتون الموجّهة للأطفال، أو أفلام الكبار، تعرض صورة البطل المختلف، ثم تتطرّق إلى الصعوبات الحياتية التي يلاقيها في يومه، وتسلّط الضوء على المساحات التي يجري نبذه فيها، لتعود فتنطلق من هذه المساحات بالفكرة الخارقة التي ستنقذه: على البطل المختلف أن يكون خارقاً في مساحة ما حتى يجري إنقاذه.

هذا ما تقوله هوليود.

الآلاف من هؤلاء بمقدرات عادية متواضعة، آلافٌ ميزتهم الخارقة الوحيدة أنهم مختلفون، فرخ البط القبيح كان قبيحاً لأنه كان خارج تصنيفات الجماعة، وكان مختلفاً، لا العكس. والسينما تعزّز ذلك بعرضها الاختلاف على كونه نقص أو خلل وجب ردمه بقيمة إضافية تُسكت الأصوات المعترضة. "على المختلف أن يكون خارقاً حتى يجري إنقاذه "أو، ليُلقي باختلافه جانباً ويندمج.

أمّا الاندماج فيعني الغياب. فكما يُعرف كل شيء بنقيضه، يتجسّد الغياب بالحضور؛ حضور الجماعة مقابل غياب الفرد، وأمّا الاختلاف فهو الوحشة، وهنا نقع في حيرة بين أن نغيب عن أنفسنا أو نغيّب الآخرين عنها، وفي كلتا الحالتين نتركها وحيدة.

أحب أن أعتقد أن كل فرد هو مشروع مختلف إلى حين ثبوت اندماجه، كما أحبّ أن أتصوّر كيف يدافع عن شذوذه بشراسة، قبل أن يقرّر أخيراً أن يتلاءم.

أمّا الحقيقة، فهي أن كل فرد هو مشروع إنسان منسجم لحين ثبوت اختلافه، جميع خياراته مطروقة، ويخشى الوحدة رغم حقيقة كونه وحيداً.

لكن أن تستيقظ ذات صباح فتجد أن العالم قد فرغ إلا منك، فهذا رعب آخر، فما هو حاصل أن العالم ممتلئ بغيرك/ الذين يشبهونك. لكننا نستيقظ، مرّات، مع شعور بأننا منهوبون، أفكارنا، ملابسنا، اهتماماتنا، مقاعدنا، أغنياتنا، مزحاتنا الخفيفة، أحذيتنا، جميع أشيائنا، قد سبقنا إليها أحد، فنقضي ما تبقّى من يومنا نهرول علّنا نسبق السارق هذه المرة، ثم نعود كل مساء مع شعور بأننا نحن السارقون؛ فأفكارنا وأشياؤنا التي سبقنا إليها أحدهم نبقيها في رأسنا.

نحن نعلم أنها لنا ونعلم أنها لم تعد كذلك، لأن في مكان ما كان هناك من هو أسرع منا، هذه الظروف فرضت علينا تبنّي فكرة المشاركة، أي أن نكون جزءاً من "الجماعة"، لأن أشياء الجماعة وأغنياتها ومقاعدها سهلة المنال، صعبة السرقة، ولأننا لا نشعر بالاغتراب ضمن اهتمامات مشتركة، ولأنه لا مفر من ذلك.

وبذلك، تتشكّل الجماعة في خيالنا بالخيار السهل الذي سيأخذ بيدنا إلى الاندماج، وإلا ما معنى أن تكون متلائماً، سواءً ضمن شروط جماعة تعطيك شرعيتك، أو تنزعها منك. تمنحك صورتك، أو تسحقها. تصنع ذوقك، أو تشوّهه. تقبلك لنفسها أو تقصيك عن نفسك.

ثمّة شعور يطغى على المشاعر الأخرى في حضرة الجماعة: شعور أنك تذوب. تحسّ بنمنمة في جلدك، تعتريك رغبة جامحة في أن تمسك وجهك بكلتا يديك لتحول دون فقدان ملمحه الأخير. إلّا أن ثّمة حاجة تطغى على الحاجيات الأخرى في حضرة الجماعة: الحاجة إلى التكيف، ولو بوجه فارغ.

هب أننا رفضنا أن نكون جزءاً من هذا القدر، وأننا نفضّل أن نتخبّط وحيدين في طريقنا على أن نتخبط في أهواء الجماعة، هل يكون خيار الوحدة والانعزال متاح أساساً؟ العالم يحاصرنا بلافتات مثل "للعائلات فقط"، و"كوبلز أونلي"، يلاحقنا بعروض الرحلات الجماعية، وخصم النادي الرياضي في حال أحضرت شريكاً، ثم بسخريات تطاول كل من قدم إلى المقهى وحيداً وأكل وحيداً ووضع موسيقاه في أذنيه ومشى وحيداً.

هناك، أيضاً، حصار محزن بشكل خاص، ذلك المتعلّق بالتغيّر المستمر في نمط الملابس. شعارات من مثيل "لون الموسم" و"موديل السنة" كفيلة بحرمانك من إيجاد زيّك المفضل في أي مكان. الجماعة تحاصرنا بأغانٍ سخيفة واهتمامات سخيفة وأحذية سخيفة أيضاً؛ ونحن نحاصر أنفسنا بالجماعة.

الرعب أن تستيقظ ذات صباح فتجد نفسك ضمن جماعة. أمّا الرعب الأكبر، فأن لا تدرك ذلك.


* كاتبة من فلسطين


المساهمون