ما تبقّى له

ما تبقّى له

26 سبتمبر 2016
منذر جوابرة/ فلسطين
+ الخط -

وقع الخبر عليه كالصّاعقة. أخبره والده أن لجنة العمارة اجتمعت، وقرّرت منع الأولاد من اللعب أمام المبنى. كان يخاف أباه، ولو أنّ أُمّه هي التي أخبرته بالأمر، لصرخ حتى الصباح، ولربما شتمها.

تظاهر بأنّ الأمر لا يعنيه. قال لأبيه:
- لقد كبرت ولم أعد أحبّ اللعب في الحارة.

تظاهر بالنعاس وذهب الى غرفته. وتحت اللحاف، أفرغ كلمات أبيه دموعاً لو رأتها أمَّه لظنّت أنه عاد يتبوّل في الليل من جديد.

كان قد واعد أحمد وحمزة على رحلةٍ إلى الغابة المجاورة كي يحقّقوا في الملابس التي وجدوها على الأرض، والتي ظنّوا أنها لأسرةٍ قتلها سفّاحٌ هارب. وحين تعب من البكاء، استسلم للنوم في دموعه كقاربٍ صغيرٍ تحرّكه رياح الأحلام.

في الليل، حلم بمطاردة السفّاح لهم بعد أن اكتشفوا مخبأه السرّي. كان يركض الليل كلّه، حتى وصل كهفاً اختبأ فيه. في الكهف تجلّى له ملاكٌ في صورةٍ كان قد رآها في كتاب قصصه حين كان أصغر، وقت كانت أمّه تروي له قصصاً عن الملائكة. سأله:
- ماذا تريد يا صديقي؟
- فأجابه:
- أريد أن أعود للعب.
فأزال الملاك ريشةً من أجنحته وثبّتها في ظهره، ثمّ قال له:
إذا كنت ولداً طيباً فستكبر الريشة وتصير جناحين يُمكّنانك من الطيران، وستحصل على أشياء أخرى سيكون عليك اكتشافها بنفسك.

كان ذلك الاسبوع أهدأ أسبوعٍ في حياته، شابهت كلماته كلمات أميرٍ يقتني اللوحات. يبدأ طلباته بمن فضلك، يختم جمله بـ شكراً جزيلاً وأتمنّى لكم وقتاً سعيداً. كان يشعر بالريشة تكبر رويداً رويداً على ظهره كبذور العدس في الصحن في تجربة حصّة العلوم.

ظنّته أُمّه مريضاً، وأن بقاءه في البيت أتعب صحته، فلطالما تأثّرت مناعته بمزاجه. أرادت أن تكسر الحظر المفروض على لعب الأطفال رغم ازدياد الغسيل، فقد كان طفلها الوحيد، وقد أجّلت أي حملٍ آخر حتى ينتهوا من تسديد كافة أقساط البيت.

حدّثت زوجها بالموضوع، فافتخر أنه كان صاحب القرار، أنه خوّف رجال العمارة من سوء لسان الشارع، وأن لا أحد غير الله يعلم ما الذي يمكن أن يحدث لو لعب الأطفال في الأسفل. قال لها:
- أرأيتِ كيف حوّل قراري ابنك الشقي إلى طفلٍ تربّى في القصور على عزف البيانو في مدّة أُسبوعٍ لا أكثر؟

في الصباح، حين استيقظ محمّد من النّوم، كان الجناحان قد اكتملا. وحين جرّبهما أوّل مرةٍ كان معتاداً على الطّيران، إذ كان يتعلّمه كل ليلةٍ في أحلامه.

لم يتمالك نفسه من شدّة الفرح، كان يصرخ كصراخه في مدينة الألعاب حين يسرع القطار به، ويصعد المرتفع المعدني. حتى أنه أيقظ أمَّه فهرعت إلى غرفته فاتحةً بابها. عندها انكمشت الأجنحة بسرعةٍ هائلةٍ وبدا كأنّه كان يقفز على السرير.
- هل تعرف كم السّاعة الآن؟
- العاشرة؟
- لا... الخامسة! ما الذي أيقظك في هذا الوقت المبكر، أيُؤلمك شيء؟
- حلمتُ بأنني أطير، ثمّ تخيّلت نفسي أطير بينما أقفز على السرير.

تضاعفت مخاوف الأمّ على صغيرها، ذهبت إليه وعانقته، قالت له وهي تربت على شعراته الواقفات:
- اليوم عطلةٌ، سآخذك في نزهةٍ جميلةٍ ... سنأكل البيتزا التي تحب، وسأسمح لك بتناول المثلّجات. ما رأيك أن نتّصل بخالتك كي تُحضر هبة وسمير؟

تعمل أُمّه معلّمة للغة العربيّة في مدرسةٍ تبعد نصف ساعةٍ عن البيت، ويعمل أبوه حتى ساعاتٍ متأخّرةٍ في محلّه التجاري، لذلك كان أول الواصلين الى البيت.

صار البيت ملعبه، يوّسعه كما يشاء خياله، تمنحه جناحاه القدرة على التقلّص وعلى منح الأشياء حياة. يكفي أن ينتف ريشةً من جناحه ويحرّكها على الدمى حتى تدبّ الحياة فيها. كان يُشارك ألعابه حرباً يحرّر فيها قلعة "الليغو" من الأشرار الذين منحهم الحياة أيضاً. يطير فوق جدران القلعة، ينقضّ على الجنود المدجّجين بالعتاد كالذين يراهم على الحواجز أو شاشات الأخبار، ويحرّر الأميرة المسجونة. ساعده تقليصه حجمَه بأن يدخل بالونَه ويرى البيت كأنما يلبس نظّارةً ملوّنة. دلّه طيرانه على كلّ بقعةٍ من البيت، وكم كانت أُمّه تتفاجأ حين يدلّها على بقعة غبارٍ منسيّةٍ في مكانٍ لا تطاله قامته القصيرة.

ازداد مع الوقت قلق أمّه عليه. ألحت على زوجها السّماح للأطفال باللعب. لكنّه كان يرى حكمة لا يراها غيره في قراره. وقد ازداد انعزال الطفل عن أصدقائه في المدرسة، وقلّ حديثه. كانت تسمعه يهذي في نومه "أحبك يا أجنحتي" و"شكرا يا ملاكي الأبيض".

استدعتها مديرة المدرسة في يومٍ كي تقول لها أنّ ابنها يُرعِب الأطفال الأصغر سنًا منه بقصصه عن الشياطين والملائكة، وبأنّه لا يختلط مع أترابه، يظلّ شارد الذّهن طوال الوقت يحدّق في الساعة ولا يعير كلام المعلمة انتباهً. قالت لها:
- هو في سنٍّ لا تسمح له بذلك، ففي نهاية هذه السنة يتخرّج من المدرسة الأساسية، وهذه الأوهام يتخيّلها تلاميذ الروضة فقط.
أعطتها رقم طبيب نفسي مختصٍّ بخيال الأطفال. ثمّ همست لها بصوتٍ خجولٍ:
- اعرضيه على شيخٍ أفضل.

في الطريق إلى البيت أحسّ محمد بأمرٍ غريبٍ، نظرات أُمّه اليه وأسئلتها الغريبة عمّا إذا كان يشاهد شيئًا في الليل، أو إذا أكل شيئًا وجده في الشارع، أو تعرّف على صديقٍ أكبر منه سنّا، تثير ريبته. سألته عن الجناحين وعن الملاك، لكنّه أنكر كلّ شيء. ثمّ في لحظة غضبٍ هدّدته أنّها ستخبر أباه بكلّ شيءٍ إذا لم يُقلع عن تصرّفاته الغريبة.

تذكّر كيف لاحقه السفّاح في الحلم، وكيف هرب إلى فتحة الكهف حيث شاهد الملاك.

في غرفته كان الشبّاك مفتوحاً على الخارج. أطلق جناحيه وهرب من النافذة، فهاجمته كلّ طيور الحي، إذ أنّها لم تعتد طائراً بهذا البياض من قبل. أوقعته أرضاً من أعلى إلى الساحة حيث كان يلعب رفقة أطفال الحي.

في اليوم التالي حين بدأ بالاستيقاظ في المشفى، سمع الأطباء يقولون لأمّه إنه سيعاني من إصاباتٍ في ظهره مدى الحياة، وأن الأمر سيكون صعباً في البداية، لكن عليهم أن يساندوه. كانت أمّه ترمقه باكية من دون أن تنتبه إلى أنه يتظاهر بالنوم، بينما لاحظت شعراتٍ بدأت بالظهور في وجهه.

* كاتب فلسطيني من القدس

دلالات

المساهمون