موت يوم آخر

موت يوم آخر

09 مارس 2016
(عمل لـ منى حاطوم، تصوير: سابا ريسكون)
+ الخط -

مثل الآخرين، تمضي خلف التابوت الذي يُحمَل لبضعة أمتار، بالتبادل، وأصوات تهمس: "آجروا يا إخوان". بخبث، يبتسم أحدهم ويرمي في حضرة الموت ما لا يرمى: "إخوان!". نعم، في غربتنا الميزان يقيس وفق نسب "الحبّ والكراهية". طاعون إنتاج "المؤامرة الكونية" والذاكرة الناسية لمن يكون أفيغدور ليبرمان. المهم "يا أخي أكرههم مش بإيدي".

على الجانبين، في الممرّ نحو فسحة خضراء، ثمة قبور لــ "النصارى" بخضرة المكان، وقد وصل حديثاً من تحت غبار الدمار.

تنظر إلى القبر قبل وصول الجماعة وتدقّق في عمقه، ستّة أقدام هو العمق لا أقلّ، وحوافه كأنها مسطّرة تسطيراً بفعل حفّارة متخصّصة. إنها قطعة أرض من مقبرة أهل البلاد مُنحت للمهاجرين، وإلا فأين سيدفن هؤلاء موتاهم؟ ليس الجميع مثل الأتراك والمغاربة في مسألة الدفن في البلد الأصلي.

الشيخ يتلو على المتحلّقين حول التابوت موعظة عن "تفاهة الحياة الدنيا وضرورة التفكر في مصير كلّ منا". شاب حديث العهد بالغربة أُصيب بفلاش باك "يرموكي" ظانّاً أنه يجب فتح التابوت، فجأةً يعود إلى رشده وهو يهمس: "يا الله ما أعمق هذا القبر!".

مضى رجال ونساء كثيرون نحو تلك المقبرة وقد "آجرت" يوماً بحمل جثّة الفنان الفلسطيني عبد الله حدّاد، وهو الذي غنّى متهكّماً على صورتنا الكاريكاتورية حتى وضعوه على شريط يفصل "الجماهيرية العظمى" عن تشاد ليلاعب الفئران لعبة موسيقية مصفّقاً لها لتقفز أمامه. ساعة ونصف إذاعية بعد دفنه، وأنا أعيد ذكرى الرجل وحياته القصيرة في غربة إجبارية بعد "وثيقة الاعتراف المتبادل"، ثم عدنا نفرك أيدينا لتبثّ دفئاً كاذباً في أجسادنا التي تنهشها برودة بلاد الشمال.

أستذكر عبد الله حداد، الذي مات ليس في "البانيو" الذي غنّى له، بل بتوقّف قلبه تحت "الدوش في الحمام"، ولم أكن أعرفه شخصياً، لكنه فلسطيني آخر مات في الغربة كفنان لم تكرّمه "ثورته" ولا "تكتيكاتها" البائسة.

أعترف بأني في الموت المهجري أُصاب بكومة من كآبة المشهد والمكان والوجوه وكل أدوات النصب والنفاق البادي في ثياب وانكسار الرؤوس "إيماناً عميقاً".. ما إن ينتهي طابور العزاء والتقبيل، حتى ينصرف الجمع إلى ما كان في ساعته السابقة لدهشة ورهبة الموت الفجائي.

لندقّق قليلاً في اغتيال عمر النايف.. فلسطيني آخر يعرّي مستوى الموت؛ بل موات أشياء كثيرة معه. دع عنك الشعارات والبيانات، تلك لعبة نعرفها منذ تكوّن وعينا في نحت الكذب تصفيقاً تحت وقع قذائف الهاون على مخيّم اليرموك في "مؤتمر الوفاء" المنتحل صفة "فلسطينيي أوروبا". أعرف من يكون رحبعام زئيفي. لا أحتاج إلى التذكير، "الرفاق" الذين صاروا يشبهون "رفاق موسكو" في صرختهم المضحكة في ثمانينيات "الترانزستور": "إن أي اعتداء على موسكو هو اعتداء علينا".

القصّة بسيطة يا "رفيق"، القصة ليست معقّدة كما أرادوها لك. في المقبرة لا تناقش سياسة ولا تقل للاجئ آت للتو من موت آخر: "الحق كل الحق مع بشار". يستمع مثقّف للحديث فينسى كيف كان يصطنع قبل ثوان خشوعاً في حضرة الموت فاقداً صوابه: "إنه يحارب ضد الإمبريالية".

للحظات، وأنت تلتقط المشهد مخزّناً إياه في ما بقي لك من خلايا دماغ، ستضطرّ للانفجار ضحكاً. لكنّك تضغط مكبس الكبت، وتحدّق فقط في زهرة واحدة تنبت على مساحة القبر الذي دفن صاحبه في أوائل التسعينيات وتفكّر في آلة العود وما جرى لها.. في يوميات المهجر الاختياري والقسري ثمة أكاذيب كثيرة.. بحجم قصائد درويش يردّدها البعض ثم ينصرفون لتمجيد قاتل، وبعضهم يحمل كرباج جلد الذات إثباتًا لنظرية تبدأ من تل الزعتر: "كل الحق على عرفات".

في مدينة من مدن غربتنا، كان "المتضامنون الأجانب" يغنّون لفلسطين، ومنهم دافيد روفيكس.. يغنّي خصّيصاً لرسمية عودة، وفجأة حين انتهى "الشهود الأجانب" العائدون من الخليل من سرد روايتهم، وقف من بين الجمهور "متضامن عربي" ليقول: "تخيّلوا أن الفلسطينيين بقوا ولم تقم إسرائيل.. لم تكن لتتطوّر، ولبقيت جمالاً وخيماً". باختصار، زحمة الغربة، صرخ صوت آخر: "في ذلك الزمان، كانت اليونان تستخدم البغال والحمير وكان في حيفا سيارات..قبل الدياسبورا يا ابن العم ".

يهرب ابن العم العربي من بقية الأمسية "الثقافية"، فربما يقف يوماً على حافة قبر في الغربة يستمع لموعظة شيخ وهو يطأطأ رأسه كدليل خشوع مردّداً "آمين".. متناسياً، كما عادة هذه الغربة حين تغيّر الثعابين جلودها.


اقرأ أيضاً: النفخ في أرواح تائهة

دلالات

المساهمون