شعاع أصفر يلطّخ الوجوه

شعاع أصفر يلطّخ الوجوه

28 مارس 2016
من "متحف نهاية القرن" في بروكسل (العربي الجديد)
+ الخط -

الساعة التاسعة صباحاً والشمس مشرقة على بلد ذي سقف رمادي داكن من غيوم. الناس في الطرقات يتحرّكون كالمعتاد إلى أعمالهم في نشاط يعكس المزاج العالي بسبب الزيارة المفرحة لشمس الصباح. أنا الذي أنام حتى وقت متأخر إذا لم أكن مرتبطاً بمواعيد وكل أصدقائي يعلمون ذلك، كنت في الشارع معهم. ثم صرخ هاتفي معلناً خبر الانفجارات التي ضربت العاصمة بروكسل (22 آذار/ مارس الماضي).

تغيّر لون العاصمة المغطاة بالضوء وصار الشعاع الأصفر يلطّخ الوجوه بلون الخوف والترقّب. الكل توقّع هوية الفاعل، فالمدينة ومنذ هجمات باريس الأخيرة وُضعت تحت حراسة مشدّدة من قبل الشرطة وعناصر الجيش، الذين توزّعوا في كل مكان تقريباً، خصوصاً في المطارات ومحطات مترو الأنفاق.

تعطّلت خطوط الهاتف ساعة كاملة. كان من الصعب التواصل مع الأصدقاء الذين يعملون في أماكن قريبة من الحادث، ولم يكن هناك بد من العودة إلى المنزل. لم أكن الوحيد في سعيي للوصول إلى منزلي، كان الكل في الشارع تحت تأثير الصدمة التي كانت تحرّكهم بالطريقة نفسها التي كنت أتحرك بها.

بلدي يشهد حربا طاحنة منذ سنوات، وكنت أعتبر أنني مؤهل بعد كل الذي حدث في سورية للتصرّف بعيداً عن الإحساس بالصدمة. لكنني كنت مخطئاً. كنت قلقاً على صديقي الإسباني الذي يحترف عزف الغيتار والموظف بالقرب من محطة مالبك، وأكثر قلقاً على صديق آخر كان مغادراً إلى الولايات المتحدة في ذاك الصباح الأسود عبر مطار بروكسل. لم يصبهما أي مكروه، لكنها لحظات صعبة كانت فيها حياة الكثيرين مفتوحة على كل الاحتمالات.

صباح الخميس، 24 آذار/مارس، كان حافلاً بالاجتماعات الحكومية. مداخل محطات القطار ومترو الأنفاق شهدت طوابيرَ من الركاب تنتظر التفتيش الذاتي قبل الدخول. كما استمر إغلاق مطار بروكسل لإتمام تأمينه وصيانة الأضرار التي لحقت به. الناس عادوا إلى أعمالهم بطريقة أقرب ما تكون إلى الاعتيادية.

تشهد العاصمة البلجيكية إلغاءً للعديد من المهرجانات والفعاليات الثقافية، خصوصاً تلك الفعاليات المرتبطة بالمنطقة العربية. وفي حديث لي مع أحد العاملين في المكتبة الفلمنكية في بروكسل؛ بارت فان، أخبرني بأنه قرّر إلغاء معرض كبير لرسوم الكاريكاتير التي تتناول "الشرق الأوسط" كموضوع وبمشاركة أكثر من 200 عمل فني.

لم يكن قراراً سياسياً، بل كان قراراً إدارياً لعدم خبرتهم بكيفية التصرّف في مثل هذه الظروف. كما لم يُخفِ فان القلق من الكيفية التي سيتناول بها الإعلام هذا الحدث الثقافي، الذي بُرمج أصلاً لفتح النقاش حول ما يحدث في الشرق العربي، في محاولة لفهم أفضل لتلك الأحداث. الإلغاء جاء بسبب الإرباك في اتخاذ القرار. فكان الأفضل لهم ألا يتّخذوا ذاك القرار أصلاً. في الوقت نفسه، نجد أن المنظومة الأمنية تتحرك بقرارات حاسمة، وتنفّذ تلك القرارات من دون الخوف من التداعيات.

خسر سكان المدينة، وأنا واحد منهم، الكثير بتأثير تلك الهجمات. كان من المفترض أن أقدّم عرضاً بعنوان "كلمة في جسد شرقي" في افتتاح ذاك المعرض الذي ألغي، يدور حول إبراز الدور الأساسي للحوار في الوقوف بوجه التطرف الفكري.

المواطنون، من مختلف الجنسيات والأعمار، تجمّعوا في مركز المدينة بالقرب من صالة متحف البورصا للتعبير عن تضامنهم مع الضحايا، وللتعبير عن تماسك المجتمع البلجيكي على اختلاف أطيافه في مواجهة العنف والتطرف. الشباب يوم الخميس كانوا يغنون للضحايا، وكانوا يقولون "أنا معك.. لست وحدك"، بينما تلاحظ خلفهم أعلام لبلدان من كل العالم تمثل الجنسيات التي تعيش في العاصمة البلجيكية تتوسطها أعلام مغربية وجزائرية وتركية.

في الأيام الثلاثة الفائتة، بقيت الشمس مشعة والسماء صافية حتى ليلة الجمعة، فقد عاد سقف المدينة الرمادي ليذرف مطراً ناعماً. كأن سماء المدينة كسكانها أفاقت لتوها من الصدمة.


اقرأ أيضاً: أنت تحبّ هذه الرائحة

المساهمون