في شارع الوحدة

في شارع الوحدة

15 فبراير 2016
(شاحنات اللجوء إلى غزة عام 1948/ أرشيف الأمم المتحدة)
+ الخط -

قلت لسائق التاكسي الذي نقلني من معبر "أيرز" إلى مدينة غزة:
- خذني إلى شارع الوحدة!
قال بعد أن شرح لي أن شارع الوحدة كبير وطويل:
- شارع الوحدة العربية..
قلت له:
- لم يبق من الوحدة العربية إلا أسماء الشوارع.
ضحك السائق وقال:
- حياتنا كلها خداع بخداع، لا وحدة ولا ما يحزنون.
صدق سائق التاكسي مائة بالمائة إن حياتنا خداع بخداع، ليس لأنه يجيد التعبير عن الحالة العربية، بل لأنه لطش مني ستين شاقلاً أجرة نقلي من المعبر وهو يحملني "ألف جميلة إنه راعاني واكرمني" لأنني فلسطيني قادم من الداخل. 
عرفت فيما بعد أن الأجرة لا تزيد عن ثلاثين شاقلاً، وهذا ما دفعته في طريق الرجعة وبلا تخفيض خاص.

شارع الوحدة في غزة طويل وعريض ويعج بالحركة والحياة. في الأيام التي أمضيتها في المدينة كنت أقطع مسافة طويلة في الصباح وأعود بعد الظهر. في اليوم الأول، لفت انتباهي شيخ في السبعينات من عمره. كان يلبس جلباباً أبيض ويجلس على كرسي من القصب، عند مدخل حانوت. على طاولة صغيرة أمامه استراحت كأس زجاجية فيها شاي، دائماً نصفها فارغ والنصف الآخر مملوء. لا يتكلم. يراقب المارة بنظرات فاحصة. عندما تقع نظراته على رجل قادم من بعيد ترافقه نظرات الشيخ المضطربة وفمه الذي يبرز منه رأس لسانه كأنه عدسة كاميرا لا تفارق الرجل إلا بعد أن يبتعد ويغيب في الزحمة لتقع نظراته على رجل آخر يأتي من الاتجاه المعاكس.

حين تمر من أمامه امرأة يطأطئ رأسه فيكاد وجهه يلتصق بكرشه المندلق أمامه، ولا يرفعه إلا بعد ان يتأكد من أن الفضاء خال من النساء، فيعود إلى مراقبة الرجال ومرافقتهم بنظراته المضطربة التي تبحث عن شيء ما..

قلت له في اليوم الأول: صباح الخير يا حج..
لم يرد، هز رأسه وأزاح نظره.
في عودتي مساء قلت له: مساء الخير يا حج.. 
لم يرد.

في اليوم الثاني، دخلت إلى الحانوت وكان هناك رجل في الخمسينات من عمره، يشبهه كثيراً، سمين وغليظ ويلبس هو أيضاً جلباباً أبيض. انهمك الرجل بترتيب الحانوت والاستجابة لطلبات زبون ملحاح يفاصل على الأغورة..

قلت للرجل بدون مقدمات ولا لف ودوران:
- من هو هذا الشيخ الذي يجلس أمام الحانوت؟
أثار سؤالي دهشته وسأل إذا كان ضايقني بشيء.

قلت له إنه أثار فضولي فقط، فهو يجلس طول النهار ولا يفعل شيئاً، يراقب المارة ولا ينطق بحرف..

- هذا أخي، أخي البكر..
قال الرجل وقدّم لي كأساً من الشاي وأخذ أخرى إلى أخيه
- إنه ينتظر عودة أبي.
قال لي بنبرة حزينه، ثم تظاهر بانهماك ما في ترتيب الطاولة التي تناثرت عليها أغراض كان طلبها الزبون الملحاح ولم يدفع ثمنها.
- هل ما زال أبوكما على قيد الحياة؟
- من يعرف؟ ربما! بالنسبة لأخي إنه لا يزال حيا، أما بالنسبة لي، فالله أعلم.

الشيخ الصامت الجالس على رصيف شارع الوحدة، لاجئ من بيت جبرين المهدومة، هو الابن البكر في عائلة كانت تعد ثمانية أولاد.
في تشرين الأول عام 1948، دخل عليهم أربعة جنود. 
جمع الأب أفراد الأسرة في زاوية من زوايا البيت وتصدّى بجسده للجنود الذين اقتحموا شاهرين بنادقهم.
الابن البكر الذي كان في التاسعة عشرة من عمره حمى بجسده أمه التي حملت أخاه الأصغر (صاحب الحانوت اليوم) وحاول تهدئة إخوته الصغار.

أمره الجندي بأن يقترب منه.
رفض.
تقدّم الجندي نحوه ليضربه بكعب بندقيته فهجم الأب عليه وتلقى الضربة على كتفه.
سحبه جنديان إلى الخارج.
صرخ الاطفال وبكوا.
تقدّم الابن البكر ليلحق بأبيه وهو يصيح: يابا.. يابا..
أوقفه الجندي بضربة على رأسه.
سقط فاقداً الوعي.

قال الأخ الحانوتي والدمع يترغرغ في عينيه:
- أنا كان عمري شهرين، أمي حملتني على ذراعيها، أخي هذا انعقد لسانه من الضربة.. إنه أخرس، لسانه مربوط. عندما استيقظ صار يطلق أصواتا غريبة ويشير بيديه، فهمت أمي أنه يسأل عن أبي، فقالت له: أخذه اليهود، أخذه اليهود. شردنا إلى المخيم. منذ ذلك الوقت وهو ينتظر عودة أبي. يجلس هنا منذ ثلاثين عاماً، لا يفعل شيئاً، ينظر إلى المارة في شارع الوحدة، لعله يعثر على أبي جاء يسأل عنا.. الله أعلم إن كان أبي على قيد الحياة. رفض أخي أن يتزوج. عندما عقد لسانه كان خاطباً فتاه من بيت جبرين، أحبها كثيراً وأحبته، هربت هي مع أهلها إلى مخيم العزة في بيت لحم. أنا أعرف انها تزوجت وعندها أولاد، وأخي يعتقد أنها ماتت، مثلما يعتقد أن أبي ما زال على قيد الحياة.

بماذا تفكر أيها الشيخ الصامت الجالس على رصيف شارع الوحدة العربية؟
كان أبوك في الأربعين من عمره واليوم هو في التسعينات
لماذا لا تراقب المارة الختيارية الذين تجاوزوا التسعين فقط؟
ألأنهم لا يقدرون على المشي في هذا الشارع المكتظ؟ 
أم لأن والدك ما زال في الأربعين من عمره بعد اثنين وخمسين عاماً؟
هل توقف الزمن أيها الشيخ عندما سحب الجنود أباك وأسقطوك على الأرض، أنت الشاب اليافع الطويل الجهم الذي لم يقدر على حماية أمه و طفلها الصغير، في وجه جنود في مثل سنك؟

قلت لأخيه:
- هل تعتقد أن عقدة لسانه سوف تنحل إذا عثر على أبيه؟
قال مبتسماً ومنفرجاً: وسيتزوج أيضاً، لأنه سيعود شاباً في التاسعة عشرة من عمره.
- وإذا عدتم إلى بيت جبرين؟
- آه..آه.. سأعود طفلاً على ذراعي أمي.. سنبدأ كل شيء من جديد.
- خطيبة أخيك تزوجت، فهل سيبحث عن معشوقة أخرى؟
- عندما نعود نحن وهي إلى بيت جبرين، سنبدأ كل شيء من جديد، إنها تعيش في مخيم العزة، تأتي هي من الشمال ونذهب نحن من الجنوب ونلتقي في منتصف الطريق.

بعد أيام كنت في مخيم العزة.
لم أذهب لأبحث عن خطيبة أخيه.
ذهبت لأتعرّف على أصغر مخيم، يقع بين شارعين كبيرين في مدخل بيت لحم، ألف وخمسمائة لاجئ، كلهم من بيت جبرين، على مساحة ثلاثين دونماً.
سهرنا على سطح بيت أبي أحمد.
كان هناك أبو رائد وأبو الوليد وكلهم يذكرون قريتهم المهدمة ويزورونها في تشرين.
حين تحدثنا عن العودة، فاضت الذكريات وغمرنا حنين فياض إلى ذلك المكان وذلك التاريخ القريب
انفلتت كل الألسنة التي نقلت مشاعر ملتهبة من الشوق إلى الأرض والدار والشجر والذكريات والعشق..
"بيت جبرين أولاً، ومن هنا يبدأ السلام".

ما الذي يقنع شيخاً معقود اللسان وينتظر والده في شارع الوحدة، وما الذي يقنع طفلة في الثالثة تسرح وتمرح تحت عريشة العنب في مخيم العزة، أن العدالة هي أقل من العودة إلى بيت جبرين التي أوقفت دواليب الزمن؟


* من كتاب "ستون عاماً: رحلة الصحراء" (2009)



اقرأ أيضاً: سلمان ناطور يغادر مقعد الحكاية

دلالات

المساهمون