كُن رصيناً واسكنِ المنطقة الوسطى

كُن رصيناً واسكنِ المنطقة الوسطى

10 فبراير 2016
عمل لـ مصطفى الحلّاج (1938-2002)
+ الخط -

"ستعود إلى مسقط الرأس، مكفولاً بالتأمين. وسيكون معك مُرافِق أيضاً" ـ هكذا يقول لي زميلي البكّاي من الدار البيضاء، مشجّعاً إياي على الاشتراك مثله في التأمين، ("اعمل لآخرتك" يا أخي المسلم).

ويُضيف معتزّاً: ـ "أدفع 130 يورو كل سنة، كي أضمن ميتة محترمة، وجنازة تليق بكفاحي. فأنا منذ وطأتُ إسبانيا، صبياً، لم أترك عملاً يعتب عليّ. وعلى مشارف الشيخوخة، صرت ألفّ على الحاويات وألتقط فضلات المحلات الكبرى، لأستر الوقت والعائلة والحَفَدة".

أستغرب وأنا على نيّاتي، فأسأله: أتخشى الدفن في مقبرة نصرانية يا شيخ؟ فيضحك ويستهجن: ـ عن أي وهم تلغو؟ الإسبانيُّ اليومَ، إمّا أن يوصي بحرق جثته مقابل أن يدفع ذووه 4500 يورو، أو أن يُدفن في قبر متواضع مقابل 15 ألفا، وأغلبهم يفضّل الحرْق، طبعاً.

15 ألفا؟ أقول مستنكراً، فيُشيح هو بكفّه، دلالة على أنني لست من سكان هذا العالم، وينبُرُ: ـ هذا هو السعر الأدنى، وسعر بعض القبور يصل إلى 100 ألف.

طيب، ومن لا يملك المال ولا الرجوع بسبب "السيسي"، كيف يحلّها؟ أستفهم بكل جديّة، تحسّباً من أن يطول الحصار، فيُجيب ـ بالموت متشرّداً، وعندئذ تتولاك البلدية في قبر جماعي مجهول. وهل تعرف أصدقاء ماتوا بهذه الطريقة؟ ـ اثنين فقط. والباقون؟ ـ يدفعون للتأمين حتى لو سَرقوا. لماذا؟ ـ هل نسيت كرامة الميت يا فلسطيني؟

ويمضي البكّاي يجرّ عربته الصغيرة الخضراء ذات العجلات، فأبتسم لخاطر عابر، أُخاطب فيه أبو زيد وحده دون بقية الخلْق هذه المرة: "من جغرافيا تتكلم عن أنواع عذاب القبر، إلى جغرافيا تتاجر في أنواع القبور، فيا قلب لا تحزن"!

ثم أعود وأقول: بل هذه جغرافيا تابعة للدون إيروس، وتلك تابعة لـ سانتوس المنحوس، فيا قلب افرح، أو على الأقل كُن رصيناً واسكنِ المنطقة الوسطى.

ثم أعود وأقول إنه ليس من الحريّ مطلقاً أن يحرص ابن الفانية على كرامة موته، وأحرى به "الحرص" (مع أني لا أحب هذه الكلمة، في أي سياق وردت) على كرامة حياته. فـ "ماذا يضير الشاة المغتربة بعد موتها"؟ ثم ما لها مقابر البلدية ـ ولا مؤاخذة ـ خصوصاً في عهد الرفيقة الأربعينية الكادحة آدا كاولو التي خفّضت راتبها كعمدة من 12 ألف يورو إلى 2200 فقط؟

لقد وعدتْ في برنامجها الانتخابي، ضعفاءَ الحال من أمثالنا، بتوفير راتب شهري 600 يورو، ولا غرو أنها إن نجت من أنياب الرأسماليين المحافظين (وبرشلونة مرتع لهم منذ غابر)، ستنظر في تحسين شروط المقابر الجماعية لأبناء السبيل ـ أللهم لا تحشرني إلا بينهم وفيهم، آمين. وذلك لسبب ثقافي جداً يا إلهي، وهو أنّ عبدك، لا يحتمل روائح أولئك في الدنيا مهما تبرفنوا، فما بالك حين يتعفنون؟

(برشلونة)

المساهمون