غَرِقَ حنّا في السماء

غَرِقَ حنّا في السماء

30 ديسمبر 2016
ريم يسوف / سورية
+ الخط -

ثلج ..ثلج.. بدأت ذرّات الثلج تهرب من السماء، ترمي بنفسها دون مظلات ودون انتحار! صغيرةٌ ناعمةٌ هي، تكاتفت وتكومت على بعضها حتى بدأت تنسج أغطية للأسطح والطرقات، ثياباً تُشبه ثوب العروس سرعان ما أسدلتها على الأشجار العارية فأعادت لها عذريتها.

سدّ الثلج كل الطرقات مُجبراً النظام إعلان اليوم عطلة رسمية لجميع المراكز والمؤسسات، أقنعه دون أي إضراب أو مُظاهرات! ثم أخذ يزحف قارعاً على أبواب ونوافذ الأطفال بيده الصامتة كي يهجروا أسرّتهم الدافئة ويلعبوا معه. نزل من أجل الأطفال، ليلعب معهم ثم يذوب ويتبخر عائداً إلى بيته.. إلى فراشه الأزرق.

كان العم حنّـا يراقب هذه الرحلة منذ بدايتها. فهو يستيقظ كل يوم في الخامسة والنصف صباحاً، يغسل وجهه المحتفظ بخطوط الطفولة التي رُسِمت قبل سبعين عاماً. يقف أمام أيقونة السيدة العذراء مع الطفل يسوع، يُصلّي صلاة الصُبح شاكراً الله على يومٍ جديد وهبه إياه. يشعل المدفأة ويتجه إلى المطبخ ليُحضّر ركوة القهوة مع الهال. يجلس بجانب نافذة الصالون، يضع موسيقى الدودوك ثم يُشعل سيجارة. العمّ ليس مُدخناً، لكن لديه قناعة بأن سيجارة واحدة صباحاً تجعل الدماغ يستيقظ!

بعد أن صبّ القهوة في فنجاني الفخار، وقف بجانب النافذة، أمام صورة زوجته "نتالي" قبّلها وقال:
صباحو .. القهوة صارت جاهزة طفلتي.

بعد أن أنهى العم حنّا طقوس القهوة الصباحية وفطوره الخفيف وحلاقة ذقنه الناعمة كرمل البحر، لبِسَ الكنزة الصوفية التي حاكتها له زوجته قبل عامٍ من وفاتها. ماتت بسبب مرضٍ في الكبد، لم تترك له أولاداً بل ذكريات لا تُمحى وسنوات من الحب والجنون والإخلاص. كانت صديقته، طفلته، أمّه التي حُرِمَ منها بعد أن قُتِلت لأنها تزوجت من غير دينها. كانت كل شيء بالنسبة إليه.

أوقف حنّا الموسيقى بعد أن رأى حبّات الثلج وهي تتساقط، كانت في بدايتها ـ في بداية ما بدأنا به ـ انتابه شعور بضرورة الصمت وكأنه أمام ولادة لوحة.. ولادة طفل! تجمّد .. ليس من البرد بل من روعة المشهد. اختلط بياض الثلج ببياض شعره المنعكس على زجاج النافذة. اقترب من النافذة أكثر، حسبه حلماً فخشي أن يصحو منه.

أصبحت الساعة الثامنة وحنّا ما زال يشاهد الثلج بفرح وكأنه الآن بدأ بالهطول. قرأ قليلاً من سورة التكوير. كانت أمّه تقرأ له القرآن في الصباح وفي المساء إصحاحاً من الإنجيل. تعلّم القراءة وعشقها من أمّه التي فقدها في عمر الثامنة بعد أن عرفت أسرة جدّه بمكانها. هرب مع أبيه إلى بلد مجاور ثم وضعه الأب في مدرسة داخلية ونسيه أو بالأحرى تناساه. كان متفوّقاً.. ذكياً فأرسلته المدرسة إلى فرنسا ليُكمل دراسته هناك. درس الأدب وأصبح كاتباً مميزاً، له أسلوبه اللطيف في رسم الكلمات سواء بالعربية أو الفرنسية. تعرّف على نتالي أثناء توقيع كتابه الأول "حروف تعلّمت الكتابة" وعندما وقع في حبّها قال لها:

"سأصنعُ من تلك الحروف اسمكِ .. أرصِفها بعناية فوق الغيوم، لتسقط ثلجاً .. الثلج هو حروف اسمكِ .. فقط"

انتفض حنّا على صوت الهاتف. كان في حالة شرود تام، أسرع إلى الردّ، رفع السماعة وإذ بصوت طفلٍ يصرخ:
لك بسرعة .. لساتك نايم! ما شايف التلج! يلا انزل حتى نعمل رجل تلجي ..

ضحك حنا وقال له بنبرة جنونية:
يلا أنا سابقك .. لنشوف مين رح يصل بالأول

تلبّك الطفل، اعتذر وأقفل السماعة بسرعة. ضحك حنا لكن ما لبثت أن تلوّنت ضحكته بالحزن، بغصّة رافقته منذ عامه الثامن حتى السبعين. كان وحيداً دوماً، تلاشت تلك الوحدة مع نتالي إلى أن عادت إليه في العام الماضي. حتى وهو معها كان يشعر بالهوة المرعبة.. الأطفال. كان خوفه من هذا اليوم، اليوم الذي يبقى وحيداً مع كلماته وخياله.. لا أحد معه.

عاد إلى النافذة ليرى الشارع وقد تلوّن بالأطفال والشباب، يرمون بعضهم بكرات الفرح، يصنعون حرباً.. حرباً سلمية! ما أجمل أن تكون كل الحروب مثل هذه الحرب.. لا تشرّد ولا دمار بل ضحكات وحبّ. يبقى فيها الثلج أبيض نقياً من لون الدم.

التفت حنّا ليرى في زاوية الشارع أولاداً شارفوا على الانتهاء من صنع رجل ثلجي ضخم. في تلك اللحظة برقت في ذهنه بقية القصيدة، الكلمات التي قالها لنتالي ساعة اعترافه بحبّه لها:
"الثلج هي حروف اسمك.. فقط . سيصنعون من تلك الحروف رجلاً ثلجياً.. ذاك الرجل هو أنا !"

أمعن النظر في ذاك الرجل الذي صنعه الأطفال، إنه يشبهه بالفعل! وضعوا على وجهه نظارة كالتي يضعها حنّا. وذاك الأنف الكبير الذي لديه.. حتى نفس الحدبة.. يا إلهي !

ركض حنّا إلى الشارع، وقف بجانب الرجل الثلجي.. إنه بنفس طوله، مجسّم واقعي ثلجي عنه! حتى الأولاد دُهِشوا للشبه الكبير.. للصدفة المرعبة. اقتطع جزءاً من توأمه الثلجي، نظر إلى الحفنة.. اكتمل الحلم وتحققت نبوءة القصيدة! إنها حروف اسم نتالي: ن . ت . ا . ل . ي .
تفحصها بجنون، خلع نظارته وتمعن بالحروف. ملأ راحتيه بالثلج وعاد مسرعاً إلى البيت، يكسوه الخوف والسعادة والدهشة.

توجّه إلى صورة نتالي وصرخ: شوفي .. شوفي .. مو معقول هههه

فرش الثلج أرضاً، وراح يفرز الحروف يشكل بها اسم "نتالي"... خرج ليجلب المزيد، أخذ دلواً، ملأه حتى الشفّة، وحين عاد رأى حفنة الثلج قد صارت زرقاء! برر ذلك بأن البرد وشدة البياض والفرحة أثّرت على بصره.

فرش ما في الدلو ومددها لتغطي مساحة الصالون، أزاح الأثاث ليكسب مساحة أكبر. عاد وجلب دلواً آخر مليئاً بالعصير الأبيض، وإذ .. بالأرض زرقاء! جلس على ركبتيه ليفحصها عن قرب، مدّ يده ليأخذ حفنة وإذ بيده تغطس.. لا إنها ليست لوناً فحسب!

لقد تحولت الأرض إلى سماء. أطفأ المدفأة وأغلق الستائر وهمّ بنقل الثلج الأبيض، أغرق الصالون الصغير بكمية كبيرة من الثلج/الحروف حتى تحوّلت الأرض بالكامل إلى سماء. أنزل قدمه في السماء، ثم عاد وسحبها ليقفز كله في فضاء لا نهائي!

لم تكن هناك كلمات تسعفه، كل الكتب التي قرأها والتي كتبها لم تساعده لوصف ما هو عليه الآن.. الصمت. لطالما قال: "الصمت هو أعظم الكتب التي قرأتها".

جلس على غيمة كبيرة، يراقب أسراب الطيور غير شاعرٍ بوزنه. فجأة.. سمع صوتاً يعرفه جيداً.. نعم، إنه صوت زوجته وطفلته، بدأ يلتفت نحوه صارخاً بجنون:

نتالي.. وينك نتالي.. طفلتي.. نتالي..

فأجابته: أنا هون.. تعا

بدأ حنّا يغوص في السماء أكثر. بدأ يغوص ويغوص حتى .. غرق حنّـا في السماء.
ورأى زوجته.. طفلته.. رأى نتالي...


* كاتب سوري

المساهمون