دخلتُ منجم الكلمات بلا قنديل

دخلتُ منجم الكلمات بلا قنديل

31 يناير 2016
يعقوب إبراهيم/ سورية
+ الخط -

كانت جدّتي أم يوسف ما إن تومئ لنا أن حكايةً ما بدأت تتسرّب من ذاكرتها المثقلة بألف رواية ورواية، حتى نجتمع حولها مكوَّمين في الغرفة الكبيرة العميقة طولاً، بجدرانها السميكة حدّ العزلة، فكنّا ننصت للسان يفيض طيبة، وكان الشتاء يرمقنا متحسراً في الخارج.. تحت شجرة الليمون!

تقول إحدى مرويّاتها الكثيرة، أنّ أياماً سوف تعصف بسورية، سيشتهي فيها الأحياء لو أن الأرض ابتلعت أجسادَهم ومضغتها جيداً، أو أن السماء امتصّت أرواحهم كغيوم هائمة نحو الجنوب قبل أن يشهدوا ما شهدوه.

أيامٌ سوداء كالحة لها على الروح ما للنارِ من أثرٍ على الجِلد الطّري. وأنّ من ينج من فكّها فسيعيش في نعيمٍ لا يضاهيه نعيم. روَت جدّتي ما روته، ثم فارقت الحياة تاركةً خلفها تلك الغرفة بلا مدفأة، تصدّعت جدرانها، وأصبحت تمرُّ بها الفصول دونما رهبة.

لم يبقَ اليوم إلا الذكريات، وليست تلكَ بمشكلة، لمن تصالح مع كل شيء. أعتقد الآن أنّها كانت تروي يقيناً أو ما يقاربه قليلاً. بل إنّها تفوّقت على تكهُّنات المعارضة والمنابر الديمقراطية ورؤى كافة الصحف والمجلاّت.. ليستْ وحدها، بل معها حِزبُ الجدّات. أصبحَ المكانُ خاوياً من كلّ شيء، صورٌ باردة وكأنّ البلاد تتجمّد، البعدُ نارٌ والبقاءُ نارٌ والبلادُ تتجمّد.

لا أعلم متى وأين سيعود الصيف، هكذا يأتي الأرقُ الفخم مرتدياً سترة سوداء ليجلس أمامي مشعلاً سيجاراً طويلاً ثم يحدق بي حتى ساعةٍ متأخرة من كل ليلة.

خرجتُ من تلك الغرفة الصغيرة في سورية، وها أنا اليوم أقف أمام نافذة عريضة جداً، أعدُّ حافلات النقل الداخلي الفارغة من الركاب. أغراني ضوء قديم وطريق خاوية من المارّة وأوراقٌ صفراء تصفق على الأرض معلنةً الخريف، تدحرجها ريحٌ خفيفة تتسرّب إلى نقي العظام. دخلتُ منجم الكلمات بلا قنديلٍ ينير الطريق فتعثّرت بأخاديد الصّمت وضمّدت الجراح براياتٍ بيضاء.

يساورني الشكّ في كل شيء، وأهتف للعدالة من شدّة الضحك. أعيش في عالم ينضح بالفشل، وتنتصر فيه الأنانية دوماً.

لستُ المؤهل لأقول "نحن"، وليس لي في أية بلادٍ بلاد. أبحث عن الطّين المناسب لابتلاع قدميّ، وعن السرير الأبيض الفسيح، حيث يمسح الحلم جبهتي، وعن ذلك المنزل البعيد الواقف على قوائم خشبية ينتظر الرعاة وماعز الجبال النضرة.

بينَ حينٍ وآخر، يبدو لي كعزاءٍ جميل أن ألتقي بصديقٍ قديم مصادفةً على متن قطار سريع يتّجه بنا إلى مدينة سنكتشفها سويّةً. نشرب القهوة في أحدِ المقاهي الغريبة، وتنفجر أفواهنا بالكثير من القصص بلا هوادة، بردٌ يحيط بنا، شفاهنا ترتجف، عيوننا تُدلِي بقطراتها الدافئة على ملامحنا الجامدة. والغُرباء يتركون كلّ شيء ليتابعوا المشهَد: سوريّان يبحثان عن إبرةٍ في عالمٍ مكوّرٍ من القشّ.


اقرأ أيضاً:
 ذاكرة جدّتي التي لم تعشها

المساهمون