اسمي سحر أبوليل 2

اسمي سحر أبوليل 2

14 يوليو 2015
أسامة دياب / فلسطين
+ الخط -

لم يؤمن أحدٌ ما بي، كانوا يضغطون على الزّناد بدل أن يمسكوا بيدي، يرهقونَ ظهري بحمولاتهم الزائدة، يمحون بدخانهم ملامحي ويرحلون. كنتُ أعلّقُ الوقتَ في عنقِ فناجين قهوة لن يشربها أحد، أنفضُ عن الشراشف غباراً تشكّلَ من ذكريات مسافرة وأغنيات.

لم يؤمن بي أحد، لم أدّعِ بطولةً ولا انتصاراً، ولم أدعُ لديانةٍ أو كفر، ولدتُ وعلى جبهتي نجمةٌ خماسية مشعة: جرحان في المعصمين، جرحان في الكاحلين وطعنةٌ في الخاصرة.

درّبتُ قلبي على الفقدان مثل حصانٍ لا يأبه للونِ الحواجز ورائحة الهواء، وحين ابتدأ السباق أطلقوا جميعهم النار نحو عينيه، وهربوا.

لستُ زجاجاً مضاداً لهذا النوع من الخيبات، أخطأتُ كثيراً وابتسمتُ أكثر. وفي كلِّ مرةٍ كنتُ أفقدُ فيها رأسي وأتحوّلُ إلى جثةٍ بملامح غائمة، كنتُ أزرعُ وردةً على سورِ الجيرانِ وأمضي.

مشيتُ على الماء فالتهم الموجُ أصابعي، شَفيتُ المرضى فظلّ سعالهم عالقاً بقميصي، قميصي المشّجر الذي لن يفتح أزراره بعد اليوم أحد.

الأسرار، كلّ الأسرار تنطلق من الصّدر وترتفع، وأسراري سأجرُّها ورائي مثل دموعي نحو المقبرة، المقبرة التي اسمها قلبي.

في الطريقِ مني إليّ، أضعتُ المفاتيح كلّها وسقطتُ جوار الأبواب أتوسّلُ الخشب بساقٍ واحدة وعين واحدة. كنتُ أسمع تأوّه الصنوبرِ وأبكي، أبكي ثم أقف.

معدل نومي لا يتجاوز نصفَ حلمٍ وساعتين،
معدل حياتي متعلقٌ بثمنِ رصاصةٍ قريبةٍ جداً.
وبينهما أتدرّجُ حبّاً وحياةً وموسيقى.

الرجل الأول الذي احببت كان قاتلاً، أحبّ الأحمرَ الكرزيّ في ضحكتي ولم يأبه للأبيض الذي تكسّر فيّ.

الرجل الثاني كان شاعراً أرادني الاستثناء في زمنٍ لم أكن أصلح فيه لخوض الحروب الخشنة، فبشرتي كانت بيضاء جداً وسيفي من خشب.

أما الثالث فقد أنقذ حياتي ثم سرقها.
لا بأس، لا بأس فالحياةُ مسألةٌ نسبيةٌ أيضاً.

أخافُ الظلام والقبعات السوداء، لم أدخل بيت عزاء سوى القصيدة، لكنني تعمدتُ صنعَ ثقبٍ كبيرٍ في تابوتي وزرع ريشةٍ بيضاء في قبعتي، وخلع حماّلة صدري تماماً عند الغروب.

هكذا فقط أحسُّ أن السّماءَ بدأت من رئتيّ وأن الأشجار والأزهار والسناجب تعرف كيف تتقافز من فتحة ثوبي إلى الحديقة.

اسمي سحر أبوليل. امرأة ما تحارب طواحين الهواء في مكانٍ ما من هذا العالم.

اسمي سحر أبوليل. ولم أحلم بتغيير هذا العالم، فقط أردتُهُ أن يصيرَ أقلَّ قبحاً، بأسنان حليب وخفّين ناعمين بلا كعبٍ يزعجُ النائمين.

اسمي سحر أبوليل
خسرتُ والديّ وعائلتي في الخامس والعشرين من يونيو 2009 بسبب مقالٍ واحد وخرافة.

أردتُ أن أنجو بحياتي،
لم أهرب تماماً ولم أعش تماماً،
لا الحركات الأصولية التي هدّدت بقتلي تغيرت ولا القبيلة،
بل ازدادت تفرعاً واستشراساً.

والدي الذي أشبعني صفعاً لم ينتبه أنه خسرني من أجل ما يسمّيه "ديناً"، أما أنا فقد تغيّرتُ مثلما تتغير الألوان في الشارة الضوئية مراراً.

الشرطي الذي ساعدني في فتح البوّابةِ الحديديّة كان طيّباً ولكنه لم ينتبه أنني أحملُ شعلةً تحت جلدي تُحرق الكبد.

اسمي سحر أبوليل. أحببتُ صيّاداً طيّباً ووهبتهُ عنقي ثمناً لنجاتي. وفي الخامس والعشرين من يونيو 2015، أهداني كدمات زرقاء وصفراء وبنفسجية كتذكرةِ سفرٍ أخيرة نحو الهاوية.

كلّهم طيّبون، أبي والقبيلة والشريك الذي رأيتُني أجلس جواره على مقعدٍ خشبي في السبعين من عمري.
أنا التي لم ألمح الخنجر وهو يلمع خلف ظهورهم.

حسناً، لا بدّ من قول ذلك.
اسمي سحر أبوليل. امرأة منفية تعرّضت لمحاولات التدجين بروحها وجسدها معاً. امرأة تعرّضت للعنف لأنها أرادت أن تكون هي بنسختها الأصلية بدون ماكياج وحذاء زجاجيّ.

اسمي سحر أبوليل. وكلّ يومٍ أقبّلُ مصطبتي الخشب، أدهنُ جروحَ الجدرانِ بالمراهم السّحرية المسمّاة أحلام.

ما زلتُ أمتلكُ بيتاً، يمامتين بريتين، شجرة صنوبرٍ عالية، أقلاماً كثيرة وحوض نعناع، وما زلتُ قادرةً على سماعِ خطوتي.

اسمي سحر أبوليل 
في الخامس والعشرين من يونيو 2016 سأصيرُ أنا السّماء.
لا تسمحي لنفسكِ بالعودةِ لحضنٍ أهانَ إنسانيتكِ، احترمي روحكِ، احترمي قلبكِ وتذكري:

الذين يحبّوننا حقاً لا يؤذوننا.


* شاعرة من فلسطين

دلالات

المساهمون