الضجر فحسب

الضجر فحسب

25 يونيو 2015
"ملحمة غزة"، رنا بشارة، 2014
+ الخط -

الملائكة حكيمة لأنها لا تُصفّق. لو صفقت، هي أيضاً ستسقط من حالقٍ، عموديّاً. الملائكة تركت التصفيق لكم أيها الأرضيّون التعساء. تركته وهي تعرف: "كلما صفقتم أكثر، شقّت تعاستكم طريقها إلى السماء". أنتم! أيها المحكومة أشياؤكم كلها بقانون الجاذبية التعيس، خلا هذه التعاسة.

*

اليوم الذي لي، لي. واليوم الذي عليّ، لي. أنا تعبت يا رب من كل هذه الملكيّة.

خفيفاً يقفز عن بطانيتك فأرُ سيوتاديّا ليذهب لرفيق آخر وآخر. خفيفاً يعود إليك فأر سيوتاديّا وقد ظفر بفتفوتة خامون. خفيفاً تبتسم، تحت ضوء الفجر وأنت تفكّر في زميل الليالي المكشوفة وقد ظفر بشيء يحبه.

*

إلهي الأُمومي إلهي الغافل إنه محض خيطٍ بين الحياة والموت محض خيط واليوم قطعه فرناندو المسكين ببسكليته فرناندو الأمومي مثلك فرناندو الغافل.

*

تكتب عن المدن حال ما تدخل لا وعيك. المدن التي لا تراودك في أحلامك، هي عندك كأن لم تكن. لا يكفي أن تكون المدينة جزءاً من ذاكرتك البصرية، كلا. تحتاج إلى درج سفلي ينقلك من الذاكرة إلى اللاوعي. هذا شرط قارّ لا سبيل للتخلّي عنه في التأليف، سوى في حالة واحدة: حين تناديك الصحافةُ وتغويك بوصفها ضرورةً كيلا تجفّ المعدة ويُشتهى سقف.

*

البنت التي لا تفهم معنى الوطن إلا أنه بيت، تنقلت بين تسعة بيوت قبل أن تكمل العاشرة. وهي إلى اليوم وقد بلغت، تعتبر أنها عاشت في تسعة بيوت لا مهاجر. تقول البيوت تتشابه. تقول إن بيتنا هناك له جنينة، وهذا ما يميّزه عن البقية.

جيد أن هذه البنت لا تلاحظ العالم، وإلاّ لشاخت روحها في مهجرها التاسع وعامها التاسع عشر.

*

كم تبدين صغيرة في الأطلس، حتى قبل أن يغزوك الجراد. أشعر بحرج وأنا أدلّ الفتاة المكسيكية عليك، في حصة تعلّم اللغة. أُشير فقط إلى خُمس مساحتك، وأقول هذه بلادي! تضحك صاحبة البلد القارّة، ثم نعود لنتكلّم عما يجمعنا ويوسّع قفص هذا العالم: أمادو وغيفارا والأنكا والمعرّي.

حينما تنتهي الحصة وأعود للبيت، أُخرجك من درج المكتب، وأحدّق: معها حق! ورب المحنة معها حق. أي جيبٍ هذا الخمس وهو لا يكاد يُرى سوى لمجنون؟

آه يا عزيزتي! تبدين لي اليوم أصغر من ضحكة فتاة تبعد عشرات الأمتار.

*

حزانى الكتّاب، لأنّ مهنتهم تتطلّب الانفعال الجزين، العزلة الحزينة، وزاوية النظر الحزينة. حزانى لأنّ ما من جملة مؤثرة في الكتابة، إلا وتنبجس من غور حزين. ومن لا تعجبه كلمة الحزن، أو يتعالى عليها، خشية الاتهام بالرومانسية، أو الساذجة، أو حتى السنتمنتالية، فعليه استبدالها بالألم أو الأسى أو .. تعددت الأسماء والحال واحد.

*

زرعنا فخاخنا فجراً، وجلسنا تحت أيكٍ منتظرين. مرّت أفواج رياح. أسراب عصافير. مرّ الظهْر والعصر والمغرب. فلاحون بخطواتهم الثقيلة. متنزهو حدائق خفيفون. ثلاثة أغربة، صقران وسنونوة. وحين أعتمت، أخرجنا فخاخنا ونفضنا عنها التراب الذي يبس. عارفين أننا اصطدنا أنفسنا في هذا النهار، وماءَ زمزمياتنا ومعهما .. الضجرَ فحسب.

*

كلما شقحت ليمونة من أجل الفودكا، أكلت قشورها ومضغت تبغاً.

الإنسان عظيم فعلاً: اكتشف السائل المروحن وبعدها بألفيّاتٍ التبغَ، ليكونا تفصيلين كبيرين في جنته الوحيدة.

الأعظم أنه فعل ذلك، بإلهام داخلي.

*

سرسقطة. حرٌّ مداري. الجارة الإكوادورية، أقفلت النافذة، لتتحاسب جيداً مع المرآة. وكما يحدث في بعض الظهيرات، عما قليلٍ ستُسمع أصوات، يتخللها نشيجٌ غَوري من الأنديز.

*

الثالثة صباحاً. المطلقُ، يعبر من غرفة إلى حمّام فوق السقف. تنصت إليه وهو يمشي بالشبشب وتقول ها أخونا القديم استيقظ ليقضي حاجة. ما حاجتك به في عام 2015 ب. م؟ حقاً على المرء أن ينضج.

(برشلونة)

المساهمون