تنحّوا عن طريقنا

تنحّوا عن طريقنا

18 يونيو 2015
نزير طنبولي / مصر
+ الخط -

الجدّ الطيّب ماركوزه كان تكلّم في يومٍ يبدو بعيداً الآن، عن إنسان الرأسمالية الفقير ذي البُعد الواحد. وأنا، سبحان الله، كنت راكباً المترو، ومذيعه الإلكتروني ينْبُر كل شويّة: باسيج دي غراسيا، دياغونال، لاسبس، فواصلت استغراقي في التأمل مع شيء من التحديق فيمن حولي، وإذ بالعزيز الراحل يقفز إلى الدماغ.

ـ إيش جابك الآن!

الكتاب الذي قرأته قبل دهور، لم يبق منه في ذاكرتي غير العنوان وغلافه الترابي. حاولت استرجاع بعض شذراته، ولما يئست، توكّلت على مصداقية ما أرى، وقلت إنّ الرؤية وحدها - ولا حاجة لرؤيا لا أجيدها أصلاً ـ تكفي.

إنها ملاحظات حسية كما يمكن القول، لا نظرية على عادة الجد.

وماذا أرى ولا مؤاخذة؟

أرى المترو، مزحوماً بقطيع من البشرية المنمّطة. جميعهم مصبوبون في قالب، وجميعهم ينظر أمامه أو ـ وهو الأرجح ـ يلعب بخصيته الإلكترونية الثالثة (كما يسمّي صديقنا جبار ياسين "الموبايل"). الكل مشغول بنفسه وإن نظر لا يرى. فما الذي سيخرج من هكذا كائن؟

حتى أن الحزن والألم ومشتقاتهما، مثلاً، تبدو فائضة عن الحاجة في هذه البلاد. بل تبدو من متعلّقات الحيوان لا الإنسان. فهؤلاء الذين أراهم لا هَمَّ لهم خارج شرنقة البيت والعمل. إنهم لا يرون من يقف بجانبهم، فما بالك بالآخر. ولك أن تتخيّل حين يوفّقهم الله أو الحزب، فيصعدون سلّم السلطة، ماذا سيكونون؟

سيكونون بالطبع أنانيين (الاسم الملطّف للعنصرية). وسنقول حينها ـ وإنْ بلا طائل غير طائل تعزية الذات: هيه، أنتم، تنحّوا عن طريقنا.. أيّها الرأسماليون ذوو الحياة الفقيرة!

*

تكتشف هنا، قصر الزمان أم طال، أنك كمهاجر، تطارد وهماً. صحيح أنك نجحت في مغادرة الجحيم الأول، لكنك سرعان ما علِقت في جحيم ثانٍ من نوع مختلف. هل أنت بلغتهم "غير مندمج"؟ أو "فاشلٌ في التكيّف"؟ ما هَمّ، فالنتيجة واحدة.
ثمة نوعان من المهاجرين: واحد لا يذكر مسقط الرأس بخير، لأنه هارب أبديّ منه ـ وهذا نادر. وآخرٌ ما إن يغادره، حتى يتحوّل المسقط إلى يوتوبيا ـ وهذا شائع. وقليل هم من سكنوا المنطقة الوسطى.
فممن أنت؟ لا غرو أنك لست بالعقلانيّ لتسكن تلك المنطقة، ومن أشياع اليوتوبيا.

*

تبدو الرأسمالية لعينيك، نسخة محسّنة شكلياً من النظام الإقطاعي القديم، أو إعادة إنتاج له، بما يناسب بهرجة هذا العصر. ورأيك هذا، هذه المرة، ليس وليد قراءات، وإنما نتيج ملاحظات حسيّة بحت.
كارثة أن تبلغ البشرية هذا الدرك، ثم تقف لتبتسم في الصورة.

*

وقع اللغة القشتالية في أذنك، أحلى من العسل. بالذات حين تسمعه عبر ميكرفون المطارات أو سيارات الإشهار بأصوات فتيات. يا إلهي كم هو الفرق بينها وبين لغات شرق القارّة، مثلاً. القشتالية مثل نسائها، خفيفة الظل ومولعة بالرقص. وفي مبحث آخر، بسقسقة العصافير.

*

حين تمشي في شوارع المدينة، تظنّ كل الناس من الطبقة المتوسطة (سواء العليا أو السفلى). فإذا عشت وتعمّقت، تفهم أن وراء هذا تربض كفاحاتٌ مريرة وكدح لا يني، كي يظلّوا بهذا الشكل، ولا تنشرخ الصورة.
ما أنظف ملابسكم، وما أوسخ النظام المتحكم فيكم.


(برشلونة)

المساهمون