تلك الرحلة.. ذلك الجاسوس

تلك الرحلة.. ذلك الجاسوس

07 مايو 2015
بورتريه لـ علي باي العباسي الحلبي
+ الخط -

[علي باي العباسي الحلبي، الاسم الذي اشتُهر به المغامرُ الإسباني البرشلوني دومِنْغُو فْرَانْثِيسْكُو بَادِيَّ (1767-1818) Domingo Francisco Badía، الذي توزَّعت اهتماماتُه بين التجسس، والموسيقى، والوصف الجغرافي، وعلم النباتات، والأركيولوجيا، والعمران، والرسم، والترجمة، والفلك، والسياسة، والتاريخ، والمناخ، والطبخ، والمجتمع، إلخ... والذي تُعَدُّ رحلتُه إلى المغرب فالمشرق العربي انقلاباً معرفياً بالنسبة إلى الغرب.

ذلك أنَّ المعارف التي قدَّمتها عن المغرب بالخصوص - وهو البلد الذي ظلّ مجهولاً لدى أوروبا على الرغم من محاذاته إياها - تميَّزت بصدورها عن تغلغل حقيقي في ثنايا المجتمع، وتوغُّل في مجاله الجغرافيِّ والسياسي، فكانت بحق إضافة تختلف جذرياً عن الأخبار والمعلومات التي وفَّرها من قَبْلُ الفَكَّاكون، والدبلوماسيون، وبعض التُّجار والزائرين العرضيين.

لقد حظيتْ هذه الرحلة سنة 1801 بدعم سياسي من قِبَل غُودُويْ Godoy الشهير بـ "أمير السلام"، الذي وَثِق في الشاب باديَّ العارف باللغات الأجنبية، بما في ذلك العربية؛ فدافع أمام الملك والطبقة السياسية عن مشروع إرسال المغامر إلى المغرب تأليباً للشعب على الملك، وإيجاداً لما يبرر التدخُّل العسكري الإسباني ضماناً لاحتلال جزء من البلاد.

وتهيئةً لهذه المهمة، سافر دومنغو باديّ إلى إنجلترا صحبة مرافقه المقترَح؛ المستعرب سيمون دي رُّوخاس كْلِيمِنْت الذي اتخذ لنفسه لقبَ محمد بن علي. وهنالك خضع للختان وحدَه، في نيسان/ أبريل 1803، كي يُمكنَه البرهنة على إسلامه أثناء وجوده في المغرب، البلاد التي عبر إليها يوم 29 حزيران/ يونيو 1803، ودخلها في اليوم ذاته.

ولن يغيب عن المتمعِّن في نص الرحلة كونها سفارية علميَّة في أساسها، وأن الهاجس السياسيَّ التجسسي لم يكن له من أهمية سوى التمويه على المركز السياسي في مدريد بحثاً عن الدعم المالي. بل إن القراءة الناقدة تكشف عن افتتان بالمغرب، ووَلَهٍ بطبيعته، وتقدير لعاداته وتقاليده، وإجلال لدينه، إلى درجة يكاد ينتفي معها وهم التجسس الذي أُشِيع عن صاحب الرحلة، وإنْ كان علي باي لم يتخلَّ عن انتقاد نظام الحكم المستبد في المغرب، والأحوال الاجتماعية المتردية، سيما أوضاع يهود المغرب.

كل ما نملكه الآن من دومنغو أو "علي باي" هو نص رحلة جديرة بالدراسة وبالتأمل طبعاً. (م. إ)]


مواصلةً لقصدي، بعد عودتي إلى إسبانيا في أبريل من سنة 1803، أبْحرتُ من طريفة على متن قارب صغير، وبعد عبور مضيق جبل طارق في أربع ساعات، دخلتُ إلى ميناء طنجة في العاشرة صباحاً، يوم 29 يونيو من السنة ذاتها، موافق الأربعاء 9 ربيع الأول من عام 1218 للهجرة.

ولا يمكنُ أنْ يُقارَنَ الإحساسُ الذي يغمُر الإنسان الذي يخوض هذا العبورَ القصير سوى بالحلم، ذلك أن انتقالَه في حيِّز زمني وجيز إلى عالم جديد كليَّةً، لا شبهَ له - ولو بعيد - بالعالَم الذي خلَّف وراءه، يجعله يجدُ نفسَهُ في الحقيقة، كأنه قدْ حُمِلَ إلى كوكب آخر.

السائدُ هو أن سكانَ البلدان المتاخمة، في كل أمم العالم، يكونُون على قدر من التوحُّد؛ فاعتباراً للعلاقات المتبادلة، فإنَّ لُغتَهم تختلط وتنصهر، وكذلك أعرافهم وعاداتهم، بحيث يُنْتَقَلُ من بلد إلى آخر بتدرُّج يكادُ لا يُحَسُّ؛ لكنَّ هذا القانون الطبيعي الراسخ لا وجودَ له لدى ساكنة عُدْوَتَيْ مضيق جبل طارق.

ومع ذلك، فالجوارُ في ما بينهما غريب جدّاً؛ كالغرابة التي يكونُ عليها فرنسي عن صيني. ونحن إن تتبَّعنا على التوالي ساكني جزيرة العرب، وسورية، وتركيا، والبلطيق، وألمانيا، نجد سلسلة طويلة من التحولات؛ التي تؤشِّرُ - بصيغة ما - على الدرجات التي تفصل الإنسانَ الهمجِيَّ عن المتحضِّر، لكنَّ الملاحِظَ هنا يلمسُ في الصباحِ ذاتِه طَرَفَي الحضارة المتباينيْن، في المسافة القصيرة لفَرْسخيْنِ وثُلُثَي فرسخ، وهي أقصرُ مسافَةٍ بين الضفتين كلتيهما، إنه يعثر على فرق عشرينَ قرناً.

لدى وصولنا إلى البَرِّ، تقدَّمَ أحدُ المغاربة إلى لقائنا، قيل لي إنَّ أحدَهم هو رَيِّسُ المرسى؛ كان ملفوفاً في جلباب ذي هيأة كيس خشن، له قلنسوة، حافيَ القدمين، عاريَ الرِّجْلين، يحملُ في يده قصبة كبيرة، دخل إلى الماء، وطلب مِنَّا شهادةً صحِّية، فسلَّمه إيَّاها رئيس قاربي، عندئذ تصدَّى إليَّ موجِّها الأسئلةَ التالية:

- الرَّيِّس: من أينَ جئتَ؟
- علي باي: من لندن، عبر قادش.
- الريس: ألا تتكلَّم الموريسكية؟
- لا.
- الرَّيِّس: من أينَ أنتَ إذن؟
- من حلب.
- الرَّيِّس: وأين حلب؟
- في الشام.
- الرَّيِّس: أي بلد يكون الشام؟
- إنه جهة الشرق، قرب تركيا.
- الرَّيِّس: إذن، أنتَ تركي؟
- لستُ تركيّاً، لكن بلدي يخضع لحكم الباب العالي.
- الرَّيِّس: لكنك مسلم؟
- أجل.
- الرَّيِّس: أحضرتَ معك جواز سفرك؟
- نعم، أحضرتُ واحداً من قادش.
- الرَّيِّس: ولماذا لم تحضره من لندن؟
- لأن حاكم قادش أخذه مني، وعوَّضه بهذا.
- الرَّيِّس: هاتِه.

سلَّمته للرَّيِّس الذي أصدرَ الأمرَ بعدم ترك أيٍّ كان يغادر القارب، وتوجَّه إلى القائد أو الحاكم كي يطلعه على جوازي، وهذا أرسله بدوره إلى قنصل إسبانيا كي يطَّلع عليه؛ فرَدَّ قابلًا أنه أصلي، وأعاده إليَّ بواسطة نائبه في بالقنصلية، الذي جاء إلى قاربي صُحْبة تركي يُدْعى سيدي محمد، رئيس فرقة مدفعية الساحة، أرسلَهُ الحاكم كي يستجوبني مُجَدَّداً.

وجَّه الرجلان إليَّ الأسئلة نفسها التي طرحها عليَّ ريِّس المرسى، وبعد أن أعادا إليَّ الجواز، انصرفا إلى القائد ليُعْلِماه.

بعد ذلك بوقت قصير، عاد ريِّس المرسى بإجازة الحاكم كي أنزل إلى اليابسة. قفزتُ إلى الأرض في الحال، واستعنتُ في التوجه إلى القائد مُتَّكئًا على مغربيَّيْن، ذلك أني كنتُ قد انقلبتْ بي عربتي أثناء مروري بإسبانيا، فأُصِبْتُ في رجلي بجرْحٍ بليغ.

استقبلني القائد استقبالاً جيداً، وأعاد عليَّ تقريباً الأسئلةَ ذاتَها التي وُجِّهَتْ إليَّ من قَبْلُ، ثم أمر بأن يُهيَّأَ لي بيتٌ، وودَّعني بمجاملاتٍ كثيرة وعروضٍ لِخدمتي.

بعد توجيه الشكر للقائد، خرجتُ برفقة الأشخاص أنفسهم، فقادوني عند حلاق. مضى التركي - الذي كان قد استجوبني في القارب - وعاد عدة مرَّات، من دون أن يحصل على مفتاح البيت الذي خُصِّص لي، الذي كان مالِكُه يوجد حينذاك في البادية.

حلَّ الليلُ أثناء ذلك، فأحضر التركي الذي صحبني سمَكًا لآكلَ معه، وبعد تناولي لوجبة خفيفة، وشروعِي في الاستعداد للنوم على نوع من خشب السرير، دخلَ علينا فجأةً بعضُ الجنود من حرس القائد بأمْرِ اقتيادي مرة أخرى إلى حضرته.

تحامَلْتُ على نفسي، وتركْتُني أُساقُ إلى بيت القائد؛ الذي كان ينتظرُني بفارغ الصبر، على بعد خطوات من باب بيته. أُصْعِدْتُ إلى غرفة حيثُ كانَ يوجدُ كاتبٌ وَكَاحِيَّتُه أو معاونُ الحاكم، وبعد أن اعتذر لي الحاكم عن عدم قدرته على أنْ يُبْقيَني معه في الصباح، أضافَ بأدبٍ كثير أنه يرغبُ في أن أنزلَ ضيفًا عليه، إلى أنْ يتِمَّ إعدادُ بيتي. بعد ذلك، سُقِينا قهوةً بدونِ سكَّر: وأُعيدَت الأسئلةُ والأجوبةُ المتعلِّقَةُ بي، بعد وجبة عشاءٍ جزيل، تناولتُ أثناءها نصيباً خفيفاً، وأخيراً نِمْتُ كما الجميعُ؛ فوق البساط ذاته.

في مساء ذلك اليومِ، أُنزِلَتِ الحقيبةُ التي هي كلُّ متاع سفري من القارب. قدَّمتُ مفتاحَها إلى الجمارك، لكنهم لم يرغبوا في فحصها، ولا أن يقبلوا إكراميَّةً. لقد رافقتني تلك الحقيبة في كل الأمكنة إلى أنْ نزلتُ في بيتي.

في اليوم التالي صباحاً، وبعد الفطور، جاءني قائد القارب يتوسَّل إليَّ كي أتوسَّط له لدى القائد ليسمحَ له بشحنِ بعض المؤن؛ فرفضْتُ ذلك، لعدم اعتقادي أنَّ لديَّ ما يكفيني من الألفة مع الحاكم كي أغامر بالطلبات. ثم تغذينا عند الظهر.

كنتُ أسأل باستمرار عن بيتي، وجميعهم كانوا يجيبوني: نعم، نعم؛ وأخيراً عند حلول الليل، أخبروني أنه جاهزٌ. عندئذٍ، ودَّعتُ القائد الذي كرَّر عليَّ خدماته، ثمَّ تَمَّ اقتيادي إلى بيتي الجديد.

عند الدخول إلى البيت، وجدْتُ أنهَّم قد أمضوا اليوم يجيِّرونَ الجدران، ويملؤون أرض كلِّ الغرف بطبقة جصيَّة سُمْكُها بوصَتان، أو ثلاث بوصات. ولم تكن إلى حدِّ ذلك قد جَفَّتْ.

شكرْتُ الأَعوانَ كثيراً على العناية التي بذلوها لتزيين إقامتي، وأُعْجِبْتُ، في الوقت ذاته، بالبساطة النادرة لعادات قومٍ يقنعون بنظير هذه البيوت، ويبدو أنهم يجهلون استعمال النوافذ أثناءَ بناء البيوت، لدرجة أن البيوت لا تستقبل الهواء والنور إلا عبر بوَّابة ممَرٍّ ينفتح على الفِناء.

وبالرغم من انزعاجي الكبير، فقد كان البيتُ ملائماً لرغبتي، وكذلك أقول؛ كانتْ رغبتي الكبيرة أن أراني وحيداً على هواي، حتى أني قَبِلْتُ الإقامةَ كفَضْلٍ، وأغلقْتُ عليَّ فيها حالاً. لقد نمتُ تلك الليلة على حصير متَدَثِّراً ببطَّانية صوف، ومتوَسِّداً الحقيبةَ.

وفي اليوم التالي، الجمعة 1 يونيو، اقْتُنِيَ الأثاثُ لِبَيْتِي؛ وكانَ يتكوَّنُ من بعض الحصير، كي تُغَطَّى الأرضُ ونصيبٌ من الجدران، وبعضُ البُسُطِ، وسريرٌ، ووسائدُ، ومواعينُ ضرورية.

لا تُعْرفُ بذلةُ المغاربة كثيراً لدى الأوروبيين، فَهُمْ حينما يجيؤون إلى هنا يلبسون اللباس التركيَّ الأنيق. إنَّ المغربي لا يغطّي رجلَيْه أبداً؛ ويتكوّن حذاؤه من بُلْغَتَيْن صفراويْنِ بَالِغَتَيِ الخشونة، ينتعِلُهما من دون اعتماد الكَعْبيَّةِ؛ ثمَّ إنَّ القطعة الأساسَ لِلِباسِهِ هي نوع من شرشف صوفٍ أبيضَ، يسمُّونَه الحايِكَ، يُتدثَّرُ فيه من الرأسِ إلى القدميْن.

هكذا إذن، ورغبةَ مني في أن أتزَيَّا كما يتزيَّا الآخرون، كانَ عليَّ أنْ أُضحِّيَ بجَوْرَبَيَّ وبابُوجَيَّ التُّركِييْن الناعِمَيْن، والتَفَفْتُ في حايكٍ هائلٍ، تارِكًا رِجْلَيَّ وقَدَمَيَّ للريح، باستثناء قمَّة القدميْن التي كانتْ تدخُلُ في بَلْغتيَّ الكبيرتيْن والثقيلتيْن.

وبما أنَّ اليومَ كان جمعة، وكان عليْنا أنْ نذهَبَ إلى المسجدِ كي نُصَلِّي وقت الظهر، وبما أن عادة المغاربة مختلفة عن عادة الأتراك نوعاً ما، تلك التي كانت عادتي، فقد لقَّنني التركيُّ الذي معي طقوسَ البلد. لكنَّ بعضَ الاستعدادات كانتْ تنقُصُني أيضاً: أوَّلها كانَ حلقي لرأسي، ولو أنني كنتُ قد فعلتُ ذلك منذ أيامٍ قليلةٍ بِقَادِشَ. أنجزَ التركيُّ نفسُه المهمَّة، وقد صيَّرتْ يده القاسيةُ رأسيَ أحمرَ، اللهمَّ خصلة شعَر كبيرة احتُفِظَ بها في قمة الرأس. وشرعَ يحلق بعدَ الرأسِ كلَّ أجزاء جسمي الأخرى، بحيث لم يبق أثرٌ لما وصفهُ رسولُنا المبجَّلُ في شريعته كنجاسة فظيعة. ثمَّ صحبني إلى الحمام العمومي، حيث توضَّأنا. سأتحدَّثُ في جزء آخر عن هذا، كما سأتحدَّث أيضاً عن طقوس العبادة في المسجد، حيث ذهبنا ظُهْراً، وهكذا خَتَمْنا عَمَلَنا الوَرِعَ تلك الجمعة. وبدأتْ في السبت التالي احتفالاتُ عيد المولد النبوي أو ولادة رسولنا المعظَّم، التي دامتْ ثمانية أيَّام. يُخْتَنُ في هذه المناسبةِ الأطفالُ؛ كلَّ يومٍ، صباحَ مساء، وتُقامُ بعضُ الاحتفالات، أمام باب القائد، لجوقة موسيقية مكوَّنة منْ طَبْلٍ خشِنٍ ومزماريْن هما أيضاً غايةٌ في الفظاظة وعدم انسجام.

ذهبنا أثناء أيام الاحتفال تلك إلى ممارسة تعبُّدِنا في زاوية أو مكانٍ مُقَدَّس، يقع على بعد مائتي طُوِيسة (وحدة قياس طول فرنسية تعادل 1.946 م) عن المدينة، حيثُ يُوَقَّرُ رفاتُ وَلِيٍّ. ويتَّخِذُ وَلِيُّ حَيٌّ هو أخُ الوليِّ الفقيدِ الزاويَةَ سُكْنًى له، ويستقبل القرابين المقََّدَّمَة للاثنين. ومن ناحية المدينة تلك تُرى مقبرَةُ المسلمين.

يقعُ ضريحُ الوليِّ وسطَ المُصَلَّى، وهو مُغَطًّى بقطع ثوب حريري رثٍّ؛ ذي قطن وذهب وفضة. وكانَ بعض المغاربة في رُكْنٍ يرتِّلون جماعةً آياتٍ من القرآن.

بعد أنْ صلَّيْنا في الضريح؛ تحوَّلنا إلى زيارة الولي الحي، لقد وجدناه برفقة مغاربة آخرين في الرياض، على مسافة قصيرة من المصلَّى. استقبلونا بحفاوة، وبعد أن جلسنا، حكى التركي له قصَّتي، فشكر الوليُّ الله على كلِّ شيء، وخصوصاً على إعادتي أخيراً إلى المؤمنين الحقيقيين؛ أمسكَ الوليُّ بيدي وتمتم بدعاء، ثم وضع يده على الصدر، وقرأ دعاء آخر، وبعد ذلك افترقنا. وكان لباس هذا الإنسان اللباس نفسه الذي يرتديه باقي الناس.

وعلى النحو ذاته؛ زرنا الفقيه سيدي عبد الرحمان المفرّج، مقدَّمِ فقهاء آخرين أو علماء الشريعة، وهو إمام أو رئيس الجامع الأعظم بطنجة، وقاضي الناحية، أو القاضي المدني؛ هذا العجوز الموَقَّر يُحْتَرَمُ في كل البلاد، بما في ذلك من قِبَلِ ملك المغرب، ولقد أنصتَ باهتمام إلى قصتي التي حكاها التركيُّ، وأظهر حُبَّهُ الكثير.

وبعد أنْ قمتُ بخطواتي الأولى في طريقي إلى الاستقرار، رغبتُ في الانصراف إلى أعمالي؛ لكنَّ الرفقة اللصيقة للتركي، الذي لم يكن يفارقني لحظةً، صباح مساء، كانتْ تزعجني إلى أقصى حد، بحيث لا يتركني أنقطع لعمل ما. فكان لزاماً إبعاده إلى حدٍّ ما، لكن الأمر كان فيه حرجٌ، لأنه بالإمكان أن يكونَ مُفَوَّضاً له من القائد أنْ يراقبني باعتباري أجنبياً، وإذن فخطوةٌ مثل هذه قد تجلب عواقب سيئة.

ومع ذلك، وبما أنه كان يتكفَّل يوميًّا بأعمالي ويُسَيِّر شؤون بيتي دون أن يجني لنفسه فائدةً، فقد كان سهلاً عليَّ أن أجد ذرائع أو أسباباً حقيقية للامتعاض، وبما أني تيقَّنتُ أنه لم يكنْ مدعوماً؛ كما كنتُ أتوجَّس، فقد فصلْتُه عني نهائيًّا، لكن بعد أن منحتُه هديَّة قيِّمة، بغاية ألا أثيرَ حفيظتَه، ولأنه حقيقةً قد خدمني جيداً خلال الأيام الأولى.

منذ تلك اللحظة وجدتُني في حرية مطلقة، وشرعتُ أشتغل على هواي.


* تقديم وترجمة: مزوار الإدريسي

المساهمون