العلاج بالمواجهة المباشرة

العلاج بالمواجهة المباشرة

20 ابريل 2015
ياسر صافي / سورية
+ الخط -

ورثت أمي قطعة صغيرة من عائلتها في الجهة الشرقية من المدينة، وهي الأقرب إلى مركز المدينة، فبنى أبي منزلاً استغرق بناؤه سبع سنوات، قبل الانتفاضة الثانية بشهور قليلة. وعندما بدأت الانتفاضة، توقف البناء ست سنوات. وضع كل ما يملك في بنائه. لاحقاً، دخل هو، ودخلنا كلنا في أزمة اقتصادية نظراً لتكاليف البناء الباهظة. كان بيتاً، لا هو فخم ولا متواضع، بيتاً عادياً، خمس حجرات كبيرة، وحوّش صغير يحيطها من كل الاتجاهات، وقريب من مناطق مليئة بالأشجار والحقول.

وأنا أخاف من هذه البيوت.

البيوت القريبة من الحقول عرضة أكثر من غيرها للحشرات والزواحف الخطرة. صرت أخاف من بيتنا والمبيت فيه. رشّت أمي مسحوقاً أبيضَ لا أعرف اسمه حول البيت. قالت إنه يمنع الثعابين والعقارب والعناكب من التوغل داخل البيت.

بعد يومين، كنت نائماً في غرفة تطل على حرش قريب. استيقظت، فوجدت عقرباً دائخاً يترنح إلى جانبي. مشى العقرب على المسحوق الأبيض الذي وضعته أمي، فصار بطيئاً وقابلاً للقتل السريع. رأيته فأصابني الذعر. كنت وكلما تذكرت أنني معرض لعقرب أو ثعبان ما، تتلبسني أفكار حول مجموعة كبيرة منها، مثل مشهد تراجيدي في فيلم رعب، تحاصرني وتعتلي جسدي، فأبدأ رحلة الصراخ والموت البطيء، مثلما حدث بالضبط في فيلم "السرب" 1978، وصوره التي اقشعر بدني منها.

قررت أن لا أبيت هناك مرة أخرى. بعد يومين من هذه الحادثة، استأجرت بيتاً في مبنىً مكون من ثلاث طبقات، قلت لا أريد منزلاً أرضياً، فاتخذت الطابق الثالث مسكناً لي، أثثته، وانتظرت. أمضيت شهوراً فيه قبل زواجي، خوفاً من هذه الحشرات. ضحكت أمي عليّ كثيراً. لم أنم في منزل والديّ إلا في الشتاء، حين تختبئ الحشرات في الأرض، ولا تظهر إلا مع قدوم الصيف. أنا شديد الخوف من الزواحف، كل شيء يزحف على الأرض ارتعد خوفاً منه، كل فصيلة الحراذين، الصغيرة والكبيرة تخيفني، أيضاً.

مرة ذهبنا في رحلة إلى أراضٍ زراعية مع العائلة. كنا أطفالاً. جلست أمي ونساء كبيرات وصغيرات أخريات في غرفة مجاورة، وكانت النساء منشغلات بإعداد الغداء. كنت إلى جانب أمي حين صرخت إحدى النساء الكبيرات. استشعرت المرأة شيئاً ما يتحرك في فستانها الفضفاض، فصرخت. تجمهرت النساء حولها، خشية وجود شيء خطير إلى جانبها، كان حرذوناً كبيراً، ضربته امرأة بعصا ضخمة، ومات. بعدها، أصابني ما يشبه "الفوبيا" منها كلها، خوف ما غير مبرر بالمرة تجاهها، يصيبني بالذعر كلما رأيت واحدة منها، ولم أستطع الفكاك من خوفي حتى هذه اللحظة.

قال لي أصدقاء مرة: حتى تشفى من هذه الحالة، عليك تعريض نفسك لأكبر قدر منها، مجموعة كبيرة من الحراذين، وستدرك أنها لن تضرك، فتشفى. أحشر نفسي في غرفة مغلقة، وأفتح قوارير مملوءة بها، وأنظر إليها، أراقبها. قالوا: ستخاف منها في بادئ الأمر، ثم سيصبح الأمر عادياً.

تسمى هذه الطريقة في علم النفس: العلاج بالمواجهة المباشرة، أو العلاج القائم على التعرّض الفيضي، وهو افتراض مبنيّ أساسا على أن المواجهة تهزم الخوف غير المبرر. علمياً، هذا صحيح، لكني غير قادر على إخضاع نفسي لتجربة مثل تلك. أنا كسول في كلّ الأمور التي تخصني. اعتقدت أنني بمجرد أن أرى هذا الكمّ من هذه الكائنات، سيتوقف قلبي من الخوف وأموت.

لم يتوقف خوفي غير المبرر عند هذه الحدود. مرةً، طلب مني محاضر اللغة العربية أن أعد نصاً أدبياً عن ذكريات الانتفاضة الأولى. كنت في السنة الثانية من الجامعة، وأعددت نصاً أظنه جميلاً عن الموضوع. طلب مني في اليوم التالي أن أقرأه أمام الطلبة، وقفت، فتهدج صوتي، وسمعت دقات قلبي بأذني، وبصعوبة بالغة أكملت القراءة. عرفت أنني أخاف من الوقوف أمام الجموع.

حكيت لصديق لي يعمل كمعالج نفسي ما حدث. قال إنني أشعر بما يسمى في لغة الطب النفسي "قلق الأداء"، وهو قلق يصاحب الشخص حين يقف أمام جمع من الناس ليقول لهم شيئاً، وهو بالمجمل موجود عند الجميع، لكن حدة هذا القلق تتراوح من شخص لآخر، وسرعان ما تخفّ حدته مع الممارسة وكثرة الظهور وتجاهل الجموع أمامك. ومع ذلك، لم تخفّ الأعراض.

كانت أمامي مقابلة عمل مهمة، أعوّل عليها كثيراً، وكنت خائفاً من احتمالات كثيرة، منها أن أدخل في حالة مشابهة. ذهبت إلى طبيب نفسي وشرحت له حالتي. حاول إسداء نصائح لي، فأكدت له، أنني جربتها كلها ولم تنفع. قال لي: تريد دواءً؟ قلت له: بالضبط، أنا كسول وأريد دواء. أعطاني، ونجح الأمر. استرجعت تجربة إدوارد سعيد في كتابه: "خارج المكان". حاولت الاختباء خلف نظارتي، خلف الإطار تماماً، ولم ينفع الأمر، لكن الدواء أعطى مفعولاً ممتازاً عندما احتجته.

هل تستعصي نفوسنا على ألاعيبنا، تفهمنا بسرعة عندما نراوغها بهذه الطريقة، تكتشف كذبنا سريعاً، فتقاومنا بطريقتها الخاصة؟


* كاتب من فلسطين

دلالات

المساهمون