"هامتي دامتي" السوري

"هامتي دامتي" السوري

06 فبراير 2015
أجدني "هامتي دامتي" متأرجحاً على جدار بين الواقع والخيال
+ الخط -

يُغطي السائل الأصفر المتيبس أطراف عينَي، تلتصق الرموش ببعضها فيتحول العالم إلى مكانٍ غائم تبدو فيه الأشياء كما لو أنها في مرآة سيارة: "الأجسام في المرآة لا تبدو كما في الواقع". تتضخم صورتي في مخيلة مرتبكة عند بداية الصحو، وأجدني - كما في كل مرة أستيقظ فيها - "هامتي دامتي" متأرجحاً على جدار بين الواقع والخيال.

كنت أحبُّ في صغري تلك الشخصية الكرتونية المعلَّقة على سور عالم (أليس) الخيالي، كما لو أنني وُجدت في هذا العالم الخيالي مثلَ بيضة ممتلئة بالزنخ تراقب جنون العالم السعيد. أفركهما جيداً، أنهض فأغسلهما من بقايا الشهداء الذين ذرفتُهم ليلة أمس.

الشهداء عادةٌ يومية أمارسها كلَّ مساء في استجداء الألم والنواح والنحيب. الجميع الآن بحاجة لشهداء، ربما هم الوحيدون الذين نجوا من شرك السقوط، فجميع من بقي على قيد الحياة كانت له سقطتُه التراجيديّة، سقطات مدويّة للكثير من الشخصيات الخارقة التي خلقتها السنين الأربعة المنصرمة، ولكن من أين جاءت تلك الرغبة في صناعة بطل ما؟ قد يكون الشهداء بطاقة الدخول إلى عالم المنظمات العالمية.. ربما.

لا أكترث بمعرفة الوقت، لكنني أضبط ساعتي على وقع ضوضاء الفيسبوك، ووفقها أقوم بممارسة أشيائي الاعتيادية.

حسناً أنا في مدينة الغربان التي تبعد عن حلب قرابة الـ 150 كم . يقولون أن تركيا ستضمّ حلب إلى ولاية عنتاب بناءً على قرار التآخي بين المدينتين الذي حصل منذ عهد بشار الأسد. ليس مهماً فأنا لست من أنصار أردوغان ولا من أنصار الجمهورية، المهم أنني الآن في مدينة المشهد الرومنسي الوحيد فيها هو أسراب الغربان التي تنعق ليل نهار.

أقلّب صفحات الفيس بوك فأرى الكثير الكثير من صور الشهداء.. الشهداء يشبهون اللوحات الإعلانية، هكذا تستطيع أن تخلق منهم سلعةً تبيع وتشتري فيها أيَّ منتجٍ مهما كان شيطانيّاً. منذ ثلاثين سنةً، عوقب أحد الضباط في حرب تشرين وكُسرت رتبتُه لأنه عاد بكتيبته كاملةً دون أيِّ شهداء، وفي الثورة قال قائد كتيبة أمامي: "أنا قدمت أربعين شهيد!".

لم يعد أحدٌ منّا يتأثّر أمام صور الشهداء، فقد حوّلتهم التلفزيونات إلى قتلى.. سابقاً كان القتيل يختلف عن الشهيد في ميّزات التعاطف، فالقتلى غير ضروريين. إنهم مهبّ لعنة الصدفة وسرعة النسيان. حسناً، لم يعد ذلك مهماً.. حتى الشهداء تحوّلوا إلى قتلى في نهاية الأمر.

لا أعرف ماذا سأفعل اليوم، فالكتابة فعل ممل، وأنا أستغرب من كثرة القرّاء! أسأل: هل يقرأ الناس حقاً كل تلك الترهات التي تُكتب؟ يخيّل إليّ أن هذه اللغةَ لغةَ عمياءُ مجهولةٌ، ولا تعني شيئاً. إنها سبب الحروب والكوارث التي تحدث لنا! كيف لنا أن نستخدم كلّ تلك التشبيهات والرموز والتوريات لوصف فعل ما؟ ماذا تعني الكلمة "شهيد"؟ فالجميع لديه شهداء! ينبغي على الإنسان أن يجد لغة أخرى تستطيع من خلالها أن تفهم بالضبط ما يخاطبك به محدّثك! أما أنا فأبقى أتساءل كيف لي أن أفهم الفرق بين كلمتي شهيد وقتيل؟

المعجم يقول: الشهيد من مات أمام الحاضرين، لكن اللغة لعنة! وأنا مثل جدي أحترف فعل "الهرج"، أنا أحبّ "السوالف" التي تعودت منذ نعومة أظافري على الإنصات إليها. كنت قد قرّرت أن أُلغي صفحتي على الفيس بوك، ولكنني لم أستطع، فالفيسبوك مضافة كبيرة، تنصت فيها إلى قصص غريبة عجيبة، بالضبط كما في مضافة جدّي في القرية حيث اعتاد أن يتحدّث فيها الجميع، من "المرابع" وحتى الإقطاعي والمثقّف.

"أنا تشارلي"، هذه العبارة التي يردّدها الجميع في هذه المضافة الكبيرة، حسناً يبدو لي أن المكان هنا متاح للتسلية، فالقصة تمتلئ بالتعقيدات والكل سيبدي رأيه فيها، ولكن ما هو رأيي أنا؟

بعضهم يقول أنهم شهداء، وأنا البارحة حلمت بكلّ الأصدقاء، الشهداء والقتلى.. إذاً ينبغي أن يكون لي موقفٌ ولو ضمنيّ تجاه ما حصل.. ينبغي أن أتعاطف. فهذا مكتوب ضمن كاتالوغ الناشط المدني الذي أصدرته الأمم المتحدة. إرهاب! إرهاب! إرهاب! تنعق الغربان فوق رأسي وتخلق إيقاعاً يشبه إيقاع الكلمة، اليوم تتملّكني رغبة بالتعاطف شديدة، ولكنني لا أعرف الصحفيّين، ولا أعرف الصحيفة، ولست موجوداً في فرنسا، ولا علاقة لي بكل تعقيدات الوضع الفرنسي. هل ينبغي لي أن أتأثّر؟

حسناً، وقعت الكثير من المجازر في وقت سابق ولكنّني لم أتأثر، حتى المجازر التي وقعت على مقربة مني وشهدت فيها الرؤوس الممزّقة فقدت قدرة التعاطف معها. هذا حقيقيّ، فأنا لم أعد متعاطفاً حتى مع ذاتي منذ فترةٍ طويلة.

"سحقاً انتظرْ دقيقة!"، أقول لنفسي المتردّدة في التعاطف، ولكن أليسَ ذلك ما ينبغي أن يكون عليه الثائر؟ متعاطفاً وشاجباً؟ فـغيفارا ذهب إلى الكونغو وبوليفيا، كما أن المجاهدين يعبرون القارات إلينا لأنهم متعاطفون معنا أيضاً! ألا يوجد كاتالوغ للتعاطف تصدره إحدى منظمات المجتمع المدني العاملة في الشأن السوري؟ لكن المسالة أعقد من فهمي. فهذا سؤال يتعلق بالهوية والانتماء. مسلم أم غير مسلم، ثائر أم غير ثائر. كولنيالي أم قوقازي.

لست غيفارا، ولست ناشطاً مدنياً، وينبغي لأحد ما أولاً أن يخبرني حقيقة ما حدث لأستطيع أن أقرر مع من سأتعاطف، فالفيسبوك مضافة، وفي المضافة الكل يختلق القصص، وأخبار التلفزيون وقائع من وجهة نظر أيديولوجية، كما أنني لا أستطيع أن أثق بزاوية المصور. و.. يعلو صوت الغربان أكثر. ينبغي لي أن أكتب لافتةً وأنزل إلى أقرب طريق ومصوّر وأقول أنني تشارلي: ولكنني لست تشارلي! من هذا التشارلي؟

ربما إذا فعلت ذلك سأخلق جائحةً من التعاطف أكون فيها أكثر إنسانيةً ممن طُلب منهم ذات يوم أن يتعاطفوا مع مئتي ألف شهيدٍ، وبذلك أثبت أنني متعاطف أكثرَ من المتعاطف ذاته! أتعب من ملاحقة القصص، يعود القُذي ليتكاثف كالبخار على عينيّ، فيغيم الواقع من جديد، ولا أعود قادراً على التركيز في الشاشة لأعرف من تعاطف ومن لم يتعاطف. أغفو.. وأرى نفسي "هامتي دامتي" على جدار عالٍ، أراقب فيه رؤساء العالم في مظاهرة تعاطف كبيرة مع الشعوب المنكوبة.


* كاتب من سوريا 

المساهمون