أنت تحبّ هذه الرائحة

أنت تحبّ هذه الرائحة

27 ديسمبر 2015
تيسير البطنيجي/ فلسطين
+ الخط -

تخرج إليهم، وقد أمطرت في هذا النهار الصائف. تتوقّع أن يكون "ميدان فلسطين" خالياً. الإسفلت مرشوم بزهور الأشجار، صفراء وبيضاء. رائحة المطر تعبق في الجو، وأنت تحبّ هذه الرائحة، لأنها بِكْر مهما تكرّرت.

تمرّ عن بالاثيدو ونيوس ويبادرانك بـ"صباح الخير". بالاثيدو أكمل المئة قبل شهرين. احتفل به رفاق ورفيقات الحَيّ بتورتة على هيئة كرة قدم، تذكيراً بماضيه. يخرج كل يوم ضحىً ومساءً للتريّض. ونيوس مثله، وإن نقصت عنه بعشرة أعوام.

تتجاوزهما وتمضي في طريقك، لتقطع الجسر الإسفنجي، نحو ماروخا بائعة الفاكهة. لقد نسيت ليل أمس محفظة النقود عندها. الجسر احْمَرّ بفعل المطر. وتحته، على يمينك، تربض حديقة النباتات بأشجارها الضخمة. لا أحد. إنها خالية من روّادها المراهقين والمراهقات، فهم في المدارس الآن،

مثل آبائهم وأمهاتهم الذين في العمل. المنطقة كلها تكاد تكون خالية، باستثناء عطلة نهاية الأسبوع. وإذا أردت رؤية الناس، فثمة مكان وحيد: السوبرماركت.

حسناً. تعطيك ماروخا المحفظة، وتمضي للميدان.

رفاقك المتقاعدون، كعادتهم هناك: دولوريس على كرسيّها المتحرّك، مع راعيتها الشابة الفنزويلية الجميلة. خيراردو السبعيني وكلابه الثلاثة الصغيرة. فلورنثيو الأورغواني العاطل عن العمل و"السعادة"، كما يقول في لازمته الغنائية. دولثي الثمانينية بشعرها الأحمر وكيسها القماشي المليء بالنوافل.

بارتوميو بنظارته وغليونه وجريدة الدياريو لا تفارق يده.

تجلس معهم، وتنصت أكثر ممّا تتكلّم. ما زلت تفهم الكلام، لكنك تجد مشقّة في التعبير. إنهم يساعدونك في التعوّد على إيقاع اللغة وتكوين الجُمل، تماماً كما يفعل التلفزيون الذي نُصحتَ بتركه مفتوحاً.

اليوم، تشكو دولوريس من تآكل راتبها التقاعدي، "إنه لا يكفي أصلاً". خمس وعشرون سنة من الخدمة كعاملة نظافة في المستشفى الحكومي، والراتب 750 يورو. ابنتها الكبرى تقول لها لا تطمعي يا أمي، 750 تكفيكِ وزيادة. خيراردو يؤمّن على كلام الابنة ويقول نحن أفضل من زملائنا في اليونان. هم هناك سُرقوا و"راحت عليهم".

تستمع وتتأمل وداعة طباعهم المتناغمة مع سكينة الجبل. هذه الغابات من الشجر، وهذا الرتم البطيء للحياة كم يروقانك. إنها سبع محطات بالمترو، وتكون في ساحة كتالونيا، قلب المدينة الضاجّ. سبع محطات لا غير، فما أعظم الفرق!

تمطر رهاماً، فيخشى الرفاق من وابل قادم، ويقومون بشمسيّاتهم.

تقوم أنت لتستقبل القطرات الدافئة على جلْدك.

وفي طريق العودة القصير، لا تنسى المرور على شجرات التين الأربع، لتمسح زورك. تتفاجأ بحبّات معقولة، تملأ كيساً، لكنْ لا كيس لديك.

تكتفي بالأكل واقفاً، حتى تشبع.

إنه اليوم ناضج ولا أثر فيه للحليب.

(برشلونة)


اقرأ أيضاً: منذ أن يولد الشاعر

المساهمون