صلالة.. الغناء بمقامات لغةٍ نحبّها

صلالة.. الغناء بمقامات لغةٍ نحبّها

16 أكتوبر 2015
(شاطئ من مدينة صلالة)
+ الخط -


يثير الهدوء الذي يلفت الزائر إلى مدينة صلالة، أو أية مدينة أخرى في عُمان رغبة خفية في البحث عن جذور هذه الحساسية المختلفة.

وإذا ما بدا لكثيرين أن ثمة هوية عُمانية خالصة ينبعث منها ذلك الهدوء، فلن يكون من الغريب أن نجد له ما يوازيه في العديد من جوانب الحياة في السلطنة؛ سياسياً واجتماعياً.

في صلالة، والمدن العمانية الأخرى، يمكن للزائر أن يلحظ ملامح واضحة لخطّ خاص لبلد ظل يعيش استقراراً داخليّاً هادئاً، بعيداَ عن الاحتفال والدعاية: الهدوء في حركة المركبات، ذوق السائقين حيال المارة، اللطف الظاهر في معاملات عادية عابرة لأهل المدينة مع المقيمين؛ كلها ملاحظات لا تخطئها عين الزائر.

ربما كانت تلك الملاحظات عابرة وغير كافية لتركيب صورة مكتملة عن المدينة، لكن شعوراً ما يفرض نفسه على الزائر للخروج بانطباع أقرب إلى الحقيقة، فيما هو يبحث عن شيء مختلف وجميل في سلطنة عمان، خارج الأزمنة العربية الصاخبة.

الهدوء هنا، يبدو أقرب إلى الطبيعة، في الحياة والبشر. وفي الوقت ذاته، لا يُخفي إشارات سياسية تستثمر تلك الطبيعة في صناعة هوية واضحة للسلم في الحياة العامة لأهل عُمان كلّهم، بوصفه علامة من علامات الاستقرار المنشود.

تنعكس في صلالة أصداء لتفاعل مريح لا يشوبه توتر، بين الاحتفاظ بطابع تقليدي، ورغبة في حياة معاصرة تمليها الأشكال الحديثة لأنماط الاستهلاك والترفيه.

الأرجح، أيضاً، أن للهدوء العماني جذوراً تراثية ناشئة من طبيعة المذهب الإباضي في علاقته التاريخية المتسامحة مع المذاهب الأخرى في البلاد. فتجربة التعايش النادرة التي تعبّر عنها حياة العمانيين بين جميع المذاهب فيها، تستحق الدراسة، في ظل الانفجارات التي تشهدها المنطقة العربية (وهي للأسف تجربة لم تأخذ حقها من الاهتمام والدرس العربيين).

برسم الهدوء الذي تعيشه مدينة صلالة، لا تتشكّل لدى الزائر مشاعر عابرة، بقدر ما يردّه إلى حيثيات متعدّدة في طبقات حياة انفردت عن بقية دول الخليج بالتاريخ الإمبراطوري، والتجوال البحري للعمانيين في التاريخ بين آسيا وأفريقيا، واللغات السامية الراطنة: (المهرة والجباليين والحراسيس) على لسان قبائل عربية قُحة، وحتى الزي المختلف الذي يمزج بين العمامة العربية والطاقية العمانية (الكمَّة) ذات الجذور الأفريقية.

إيقاع الحياة هنا يشبه عزفاً منفرداً يُصغي إلى أصواته الداخلية الهادئة أكثر من أي شيء آخر، سواء في محيط منطقة الخليج، أو المنطقة العربية بشكل عام.

في عُمان، ربما أمكن للزائر، أيضاً، ملاحظة صيغة للتعايش فريدة، غامضة، وبعيدة عن بيئات وحيوات عربية بدت تناقضاتها اليوم أكثر وضوحاً في أغلب بلدان العرب؛ فإذ يبدو البلد محافظاً على هوية استقراره، وواعياً تلك الهوية، فإنه، في الوقت نفسه، يجسّد، عبر ذلك الاستقرار، تماهياً واضحاً مع ترتيبات نظام سلطاني تاريخي.

ليس هنا، والحال هذه، ما يردّ الأمر إلى تبريرات الجدل النظري الذي يقرأ أحوال البلدان العربية الأخرى، ضمن تفسيرات سياسية مسطّحة، بقدر ما يتّصل الأمر بأسباب تاريخية واجتماعية لبلد لا يزال يرسّخ بهدوء استقراره الخاص في الأزمنة الحديثة.

تنوع طبقات الهوية تستبطن عُمَان تنوعاً فريداً لطبقات هوية مختلفة من محيط علاقاتها التاريخية والإمبراطورية السابقة، ويختزن ذلك التنوع نسيجا متجانسا لتلك الهوية المنفتحة تاريخياً على مجتمعات الجوار الآسيوي والأفريقي، وتحديداً، منطقة القرن وشرق أفريقيا.

كذلك، فإن للهند في عمان بقايا لا تزال منعكسة في أصداء حياة تاريخية ربما أصبحت اليوم طيفاً من أطياف الهوية العمانية المتعدّدة. فجوز الهند الذي تنتشر أشجاره الباسقة على سواحل الجنوب العماني، وأصل العملة العمانية (البيسة) الهندية، ومناخ المحيط الهندي ربما انعكس ــ كرديف جغرافي ــ في ذلك الهدوء الذي يتميّز به المجتمع العماني، إلى جانب الأسباب التاريخية والاجتماعية الأخرى.

ثمة حكمة واضحة في تشريعات كثيرة تنظّم الحياة العامة في السلطنة، وتتوخّى الحفاظ على دعائم ذلك الاستقرار؛ ربما دل عليها الخطاب الديني، وهو خطاب عصري ومعتدل، بحسب ما تدل عليه مواد مجلة "التفاهم" الفصلية التي تصدر عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية.

قد لا تحتاج سلطنة عمان، اليوم، إلى حكمة عربية جديدة في موازاة المصائر العربية التي تنخلع فيها تجارب الاستقرار في المنطقة، بعد الربيع العربي، والتفكّك الذي ضرب تلك الدول؛ لكن أقل ما تحتاجه من أشقائها، في الحقيقة؛ هو الصمت النبيل إزاء تجربتها الصامدة في البحث عن المزيد من العوامل المؤدّية إلى ترسيخ استقرارها، بعيدا عن مقاييس "الصواب" السياسي والتنظيري لذهنية الأيديولوجيا العربية.

وفيما استلهم العمانيون من أفريقيا طاقية (الكمَّة) المزركشة، كجزء أصيل من هويتهم، خلّدوا آثاراً فنية باقية في شرق أفريقيا، خصوصاً في "زنجبار" أو "بر الزنج" (بحسب النطق الإنجليزي المقلوب للكلمة) حيث لا تزال ، حتى اليوم ، أعذب أطوار الغناء العربي الكلاسيكي وأنماطه التقليدية الأصيلة مثل قالب "الدور" في المدينة التنزانية (رغم لغته السواحلية)، على ما تشهد الأغنيات الخالدة لمغنية زنجبار الأسطورة، فاطمة بي كيدودا، تلك التي أعادت إنتاج ألحان ومقامات عذبة لمغنية عربية عُمانية عُرفت بـ ببنت السَّعدي عاشت في زنجبار وانتشرت أغنياتها الجميلة في سلطنة عُمان خلال عشرينيات القرن الماضي.

فلن يغني أحد، أبداً، بمقاماتِ لغةٍ لا يحبّها.


* كاتب من السودان


اقرأ أيضاً:
 كل صحراء مررت بها

دلالات

المساهمون