إلى ميرانو.. شعراء وراء أفيال هنيبعل

إلى ميرانو.. شعراء وراء أفيال هنيبعل

08 يونيو 2014
معتوق أبو راوي / ليبيا
+ الخط -

من ميونخ إلى ميرانو (شمال إيطاليا)، ينقلنا ميني باص أنيق. أربعة شعراء. محمد بنيس (المغرب)، إيمان مرسال (مصر)، نورا أمين (مصر) وكاتب هذه السطور. يرافقنا المترجم والأكاديمي شتيفان ميليك. ميليك الذي درس العربية ويجيدها بمزيج بين الفصحى والمصري والسوري، سيحدثنا في طريق العودة عن يعقوب، لوقا ومريم. طفلاه وزوجته.

مرسال أول الواصلين وبنيس آخرهم. نورا أمين، المخرجة المسرحية والشاعرة، تعلّق بصوتها الهادئ على ما يجري في انتخابات رئاسة مصر. "العم أصلان" أنطّ قائلاً. وتحدثني بمعرفتها به. أندهش. "أقرأ قصصه، وأتنفس داخلها"، أقول. في اليوم التالي، وعلى طاولة الفطور، نستذكر أسماء جميلة في السينما المصرية. نجوم الصف الثاني. أقول "علي الشريف. نعيمة الصغير" بينما أقشر بيضة مسلوقة بصعوبة. تبتسم مضيفة "نجاح الموجي" وآخرين وتصفني بالـ"صعلوك". "من وقت إلى آخر"، أجاوب. مثلاً. أنا أحب الساعات الفاخرة. الجيد أنها لا تزرع تحت الجلد، وإلا لكان تغييرها يحتاج عملية جراحية في المعصم.

في الميني باص، نجتاز الحدود. رسمياً، نحن خارج ألمانيا. "في إيطاليا الآن"، يعلّق بنيس الكثير الأسفار بابتسامة ماكرة تتداخل ولهجته الودودة. نلتفت إلى لوحات الطرق، الإعلانات، إشارات السير، الأسماء. جميعها مكتوب بالإيطالية والألمانية. اللغتان تتسابقان وتتجاوران. يدفعهما التاريخ بيدين ضخمتين. يدا التاريخ تنطلقان من الحرب العالمية الأولى.

جبال الألب، بألقها المُلِحّ، ليست وحدها من يسترعي انتباهنا. نحن مهيؤون للوقوف عند الاختلافات. الاختلافات هي أبرز ما تتميز به أمكنتنا. اختلافات لا نجيد بعد التعامل معها. الناس هنا يتحدثون لغتين أو ثلاث. الإيطالية والألمانية واللادينية أيضاً. بهذا لا يمكن لأحد أن يشتم الآخر بلغته. الحروب تخلّف تِركَةً في اللغة. واللغة أسلوب شخصي وحياتي. والشعراء المدعوون سيقرأون بالعربية والألمانية.

نحن متجهون إلى "مهرجان لانا" الشعري. لم يسبق للشعر الناطق بالعربية أن حضر هنا ملفوظاً. نحن لاحقون بشعراء من وسط أوروبا، إيران، البلطيق، روسيا، السويد، النمسا، بولندا، النرويج واسكتلندا. ميرانو في الشمال الإيطالي، هدفنا. ميرانو بالإيطالية. ميران بالألمانية وماران باللادينية. اللادينية لغة تتشاركها قرى وبلدات في جبال الدولوميت شمال إيطاليا.

أفكر بالرسوم المتحركة: "هيدي" و"بيل وسيباستيان". يخيَّل لي أن بيل المُطارد لإيوائه كلباً أبيض يتحدث اللادينية. ملاحظة لا أساس لها طبعاً. حدس! أشطب الملاحظة من دفتري وأقرر عدم كتابتها. بعد يومين يحدثني محمد بنيس قائلاً، ونحن نتناول نصف دجاجة مشوية، "الكثير مما يكتب اليوم، يكتب بالحدس. لا بالمعرفة". "حدس مشوي"، أعلِّق سراً.

أفكر بسؤال السائق: "ألا تعتقد أنك تقود الميني باص بسرعة؟" ثم أتراجع. لماذا يعطي شاعر لنفسه الحق في التدخل في سرعة فان؟ أن تنجو من حادث سير محتم، قصيدة. وأن تموت في قعر الطبيعة، فأيضاً قصيدة. الشعر بحد ذاته تدخّل غير أليف أحياناً. الشعراء يكتبون في الفلك والطب هذه الأيام. بالإضافة إلى الرياضة.

في اليوم الثاني لوصولنا، نصادف مشجعين يهتفون بالألمانية. كلاوس هارتيغ أحد منظمَي المهرجان (إلى جانب كريستين فيسكولي) يقول "المنتخب الألماني يعسكر على مبعدة كيلومترات قليلة". يقصد، من مكان قراءتنا الشعرية. التمرين الأخير قبل مونديال البرازيل. الملاحظة: المنتخب الألماني يتمرن في شمال إيطاليا. هذا لأن المكان نفسه إشكالية. ثقافياً، سياسياً وتاريخياً. المنطقة كانت جزءاً من النمسا. انتقلت إلى إيطاليا عقب الحرب العالمية الأولى. السكان يتحدثون الالمانية أكثر مما يتحدثون الإيطالية. ميرانو مستقلة. ناجية اقتصادياً من فخ الوحدة الأوروبية رغم وجودها رسماً على خريطة إيطاليا.

جبال الألب تبدو كقبضات تجر سويسرا والنمسا وإيطاليا وألمانيا وفرنسا إلى ملعب واحد. إنها فالس الجليد، الأعشاب، الأشجار، الصخور. البيوت والمَزَارع والطرقات السرية. أيضاً فالس الناس ومن بينهم كريستين فيزكولي، التي تحرص على ترتيب كل التفاصيل في المهرجان. تستقبلنا وكلاوس. يبتسمان ملء قلبيهما.

لقد وصلنا ميرانو بعد أربع ساعات على هبوطنا في ميونخ. لم أسأل السائق لأني أتحاشى في سلوكي التصرف كشاعر. في الليلة الاولى ستقرأ نورا وأنا، وفي الليلة الثانية يقرأ محمد بنيس وإيمان مرسال. نُحتضن مرتين. وتمتلئ القاعة بالكامل مرتين. ويكلل المهرجان بالنجاح مرتين. وفي المساء الأخير، تنقلنا إيمان مرسال إلى التراث الغنائي العراقي. سليمة مراد وزهور حسين وناظم الغزالي.


ميرانو الإيطالية


الحاضرون أبدوا اهتماماً بالشعر المكتوب بالعربية. بالثقافة العربية الحديثة و"تطورها". أسئلة الانتماء والهوية والمحرِّك الثقافي تشغل بالهم. هنا، نحن نتكلم اللغة نفسها. يطرحون سؤالاً ونجيب عليه. شخصياً، أحرص ألا أتصرف كخبير تجميل. أتسبب بالإزعاج لعربي جالس وسط الحضور. أعتذر منه بعد المناقشة.

أحاول إهداءه حكاية هنيبعل. هنيبعل، قرطاجة والأفيال لك. إسمع: يُروَى أن هنيبعل تسلق بأفياله جبال الألب في طريقه للفتك بروما. يُروَى في الكتب وفي الأفلام الوثائقية يا أخي. كلاوس يعلِّق "هنبيعل مر من هنا، من ميرانو بأفياله".

وفي اليوم التالي، تضيف كريستين فيسكولي إيضاحاً "الأفيال لم تتسلق الألب. لقد مر بها هنيبعل عبر الوديان". هنيبعل زحف نحو روما. ولم يتسلق قمة من أجل هزيمتها. في اليوم التالي أكمن للأخ قائلاً له "هنيبعل أيضاً زحف يا أخي. زحف نحو روما".

المساهمون