بابا نويل كردي

بابا نويل كردي

27 ديسمبر 2014
خالد تكريتي / سوريا
+ الخط -

لم تكن نسبة قوم عيسى، من أرمن وكاثوليك وبروتستانت وسريان تجاوز العشرة بالمائة في بلدة عامودا. نزحوا إليها مع سقوط الخلافة وتأسيس الدولة التركية الأتاتوركية الحديثة، فاشتروا بيوتاً، كانت كلّها من الطين، وأسسوا كنساً، ونشطوا، وبرزوا، ورأسَ أحد سكانها الجمهورية العربية السورية يوماً واحداً بعد شغور المنصب!

وفي رأس السنة، كان الشارع الممتد بين مدرسة الغزالي إلى بيت مختار النصارى جورج، يتزيّا ببضائع عيد رأس السنة، ولم يكن بابا نويل سوى شخصية كومبارس في العيد. متاع العيد أميركي وافد هو: بالونات طويلة يمكن عقدها وجدلها، وصفارات تمتد لها ألسنة ورقية مرنة، ثم تنغلق ما أن ينتهي النَفَس، وأقنعة غالباً ما تكون لشخصيات الكوميديا السورية مثل غوار وحسني البورظان وياسين بقوش.. ولم نكن نعرفها سوى من السينما، فالتلفزيون لم يكن يومها، وحلاوة، غير مألوفة، قاسية تكسر بمطرقة صغيرة، وفاكهة أهمها الجوز والكستناء تباع في الشطر الثاني، في سوق المسلمين.

يزيّن المختار جورج مكتبته المسماة باسمه، وجاره جمجق، محله بالأنوار والزينة. مصادفةً، مررت يوماً على محل في السليمانية في حلب ودخلت إليه لشراء بضاعة مزجاة، انتبهت إلى صاحب المحل العجوز يقول لي من وراء نظارة سميكة كعب الفنجان: أنت من عامودا؟ قلت له منبهراً مدهوشاً: شرم برم. كيف عرفت؟!

وعادةً ما يعرف أهل عامودا بعضهم حتى في أميركا ممّا يسمونه "بصمة الدم"، وبصمة أخرى سلوكية خاصة بأهلها، وهي المشي في وسط الشارع، وليس على الرصيف. ويعتقد أنّ السبب هو عدم كفاءة الأرصفة المحفرة، ورداءتها، وليس حبّاً بإعاقة سير الآلات والمركبات ومنافستها. لكني لم أكن ماشياً وإنما مشترياً، فكيف عرفني؟ يعرفون أيضاً بعضهم بقسوة الشتائم ويتحاببون بشتم بعضهم بعضاً!

قال عرفتك، أنا سعيد جمجمق، محلي على الناصية.

فوق المحل، كانت تعلّق بوسترات السينما، جار الطورنجي آرتين. ثم خرج وعيناه تدمعان وتعانقنا مثل بطلي الشاهنامة رستم وزهراب.

كان جمجق يبيع الخمور ومعها بعض المنظفات والمأكولات الحلال ومنها علبة صغيرة، مكتوب عليها "نستله"، في حجم علبة التونة، مدورة، مليئة بالحليب الثخين الحلو الحارق الحلاوة، ولعلي كنت زبونه الوحيد.

جيران المسيحين كانوا يشاركون في العيد بشراء هذه الحلوى، ويعايدونهم بالزيارة والمباركة في اليوم الشرقي. وكان الصبية يضعون الأقنعة في ليلة العيد، ويغيرون على البيوت عشاء، والأبواب مفتوحة دوماً، ويردِّدون عبارة كردية مسجوعه "سري صالي بني مالي بشك بشك بشك"، أي: "رأس السنة، تحت البيت، رش، رش، رش". فينتبه أصحاب الدار إلى زيارة الصبية ويهدونهم بعض القطع النقدية الصغيرة وقد يرشون عليهم الماء كنوع من جنس التحية وقومها.

لم يكن أهل عامودا يعرفون بابا نويل، الذي غدا أسطورة يحتفل بها العالم في عصر العولمة، ولم يكونوا يحتفلون بعيد رأس النسة كما يفعلون الآن، أسوة بالغرب "المعلّم"، ولم نكن نحتاج بابا نويل. في ذلك الزمن، كان سكّانها جميعاً يعيشون في عيد، كل ساكن هو بابا نويل، أحمدي دين بابا نويل، وإسماعيلي دين بابا نويل، يوزّعان الطرائف على الناس من غير قصد أو أتاوة، مثلهما "نوافي دين"، وأهلها يعيشون مؤتلفين مع أنهم من أديان وقوميات مختلفة، وهم الآن من قومية واحدة لكن البأس بينهم شديد!

كل الأعياد الوطنية والمسيحية لها زينة خارجية، إلا أعياد المسلمين، تعاش من غير زينة، لكن حافلة بالعادة ومفعمة بالكرم والأشواق.

كان المطر، غزيراً في تلك الأزمنة، ويجري على خدود الطين، في الشارع، فتشتهي أن تشربه.

المساهمون