قبل النهاية بلحظة واحدة

قبل النهاية بلحظة واحدة

16 ديسمبر 2014
ياسر صافي/ سوريا
+ الخط -

رأسك الذي تلقّى طوبةً طوّحَ بها، بحقدٍ دفينٍ، قاتلٌ محترفٌ للعصافير، سيظلّ ينزف أمام عينيّ من دون توقّف.

سيظلّ النخاعُ الأبيضُ يتسلّلُ بمكرٍ من الكسورِ ليلتفَّ حول رقبتي.

تعالَ ونم بجانبي؛ سأُداوي العلامات الناريّة التي تركها قضيبُ الحديد على جسدك؛ سأُداوي الثقب الغائر الذي أحدثته رصاصةُ الكلاشنكوف بين عينيك؛ سأجعلُ من لحمي وسادةً لجسدكَ المنهك/ المتهتّك.

أكنتُ أصمّاً أم إنني لم أسمع صُراخك؟ لعلّك ابتلعته. لعلّك ابتلعتَ لسانك. قل لي إنّك انتحرت اختناقاً؛ قل لي إنّك لم تسمع طقطقة العظام وهي تتكسّر واحدةً واحدةً وتتفكّك عن بعضها؛ قل لي إنّك لم تسمع صوته وهو يقول: "على رأسه.."

هذه الأرضُ إرثٌ لهذا الجنس الوسخ من الآلهةِ الوضيعة. إلهٌ عبدٌ لإلهٍ عبدٍ وهكذا إلى ما لا نهاية. لكنّ النهاية آتية: حين أشدّ قبضتي وأكزّ على أسناني أتضخّم لأصير عملاقاً أزرق بارداً، وأسحق بقدميّ تلك الحثالات. من أطرافِ نظرتي العارفة تتساقط قطراتٌ من الأسيد. ذوبوا. تبخّروا. أرفع كأسي نخب موتكم وأجلس وحيداً على ظهرِ كوكبٍ فارغٍ أنتظر موتي الذي لن يأتي.

لكنّ الحياة ليست روايةً مصوّرة، ولن يتمكن ألان مُوور من تأليفِ مُستقبلٍ آخر لي أو لكم، وهذا الذّبيح الذي أمامي ليس جزءاً من أحداثٍ محنّطةٍ في أوراقٍ يبعثها العقلُ حيّةً متى أراد، وتعود أدراجَها إلى رفٍّ مغبرٍّ بعد القراءة.

هذا الذي أمامي دمٌ سيظلُّ ينزف دون توقّف، والطوبُ الذي أُلقي على رأسكَ- يَكسِرُ ويتكسَّرُ- سيظلُّ يدورُ في رأسي بعرضٍ سريعٍ وبطيء ومعكوس، وأنا أدورُ وأتقلّبُ في سريري كمن يُضربُ جسدهُ بقضيبٍ من الحديد، وأنفجرُ كمن يتلقّى طوبةً على رأسه..


[زووم على وجه القاتل]

اثنانِ وثلاثون عاماً. متزوّجٌ ولي ثلاثة أطفال: بنتانِ وولد. أعتني بحديقة المنزلِ في القرية، وأقبّلُ يد أمي حين أزورها كلّ يومٍ وتربتُ على رأسي. "يرضى عليك يا إمّي" تقولُ لي. أُضاجع زوجتي ثلاث مرّاتٍ في الأسبوع، وأتشاجرُ معها أحياناً لكنّي لا أتركها غاضبةً أكثر من يومين فأُحضر لها حلواها المفضّلة وأُراضيها. تجنّدت في الجيش، هكذا. راتبٌ مضمونٌ وتأمينٌ صحّيٌ وبضعة امتيازاتٍ وهَيْبَة. لم أدخل معركةً في حياتي، فحين ولدتُ كانت الجبهات قد هدأت منذ زمن طويل. الحربُ الوحيدة التي عرفتها كانت حرباً في الداخل؛ حرباً لاجتثاث الورم السرطانيّ؛ حرباً لتصفية التسوّس الذي لا يتوقّف عن النخر؛ حرباً جعلت مِنّا "هم" و"نحن". هم المرض، ونحن الدواء.

أمسكوا ذلك الشاب في مخزنٍ كبيرٍ أثناء مَسْحِهِم للمنطقة. كان منهم. وكان يُخبّئُ سلاحاً. أحد زملائي أمسكَ بقضيبٍ حديديٍّ وظلّ يضربُ ويضربُ، والشاب يتلوّى على الأرض محيطاً رأسهُ بذراعيه. لم يصرخ، كان يترجّى بصوتٍ منخفضٍ أن نتوقّف. الوقح.

استمرَّ الضّرب دقيقتين كاملتين أو أكثر قليلاً، لا أذكر، ثم حملتُ طوبةً وانتهزت لحظةَ انكشف فيها رأسهُ فهويتُ بالطوبة على الكتلةِ المدمّاة. عندها لم يعد الجسد يتلوّى. هدأ تماماً وسكن. لكنّ صاحب القضيب الحديديّ ظلَّ يضرب، وأنا حملتُ طوبةً أُخرى وهويتُ بها على رأسه. تكسَّرت الطوبة وتكسَّر رأسه، وجاء أحدهم وأطلق النار عليه. قلنا له: "تريدُ حريّة؟ ها قد نلتَ حرّيتك". لم يردّ. ظلّ وقحاً حتى بعد أن مات.


[زووم على وجه القتيل]

نحيلاً كنتُ دائماً. عيّرني أصحابي بذلك، وأمّي أحياناً. كنتُ آكلُ وآكلُ ولا أَنْصَح. ظللتُ هكذا شبهَ ظلٍّ حتى انطلقوا ذات يومٍ في قريتنا. كان يصيحون بكلماتٍ كنّا نخشى أن نهمس بها لأنفسنا. حين جاء الجنود صاروا يقولون: "سلميّة... سلميّة..."، فينهمر عليهم الرّصاص.

كنتُ هناكَ حين سقط ابن جيراننا وظلّ وسط الشّارع ينزف ثلاث ساعات كاملات. كان نصيب أيّ شخصٍ يُحاول الوصول إليه طلقة. هكذا ماتَ أوّل اثنين برصاصةٍ في الرأس، ولم يعد ثمّة ثالث. انقطع نسلُ الشّجعان بعدها، وبقينا نراقب بركة الدّم تكبر وتكبر وآهات ابن الجيران تخفتُ إلى أن همد. عندها قرّرت أن أحمل السلاح، وأقاتل.

في طريقي تعثّرتُ بجنودٍ سابقين، بملتحين، بزعران، وبكثيرين مثلي حرّكهم شعورٌ عميق بالمرارة والمهانة: شبابٌ نحيلون لم يُغادروا أحضان أمهاتهم قطّ. لا يهمّني. أنا غريقٌ الآن، والبلل آخر همّي. تدّبرتُ بندقيّةً سُرقت من مخازن الجيش، وحين حشوتها بالطلقات تضخّمت جثّتي فجأةً، وصار مُروري يلفت الأنظار وأحسّ الأرض ترتجّ قليلاً حين أضغطُ عليها بقدمي. لكن عندما أمسكوا بي في مخزنٍ مهجورٍ كنت أخبّئ فيه سلاحي نهاراً عدتُ ذاكَ النحيل الذي يُعيّره أصحابه، وأمّه أحياناً. عدتُ خجلاً من نفسي أنظرُ في نقطةٍ عميقةٍ تحت الأرض التي أمامي.

لم أعرف أحداً منهم ولا هم عرفوني، لكنّهم ضربوني بقضبان الحديد كأنني مُغتصب أُختهم. أُختُهُم حرّية. أُختي حريّة. أُخت الحريّة. ويضربون. لي أمٌّ تريدُ أن تُطعمني لأَنْصَح. تريدُ أن تزوّجني ليكون لها أحفاد. ويضربون. قضبانٌ حديديةٌ يا عمّي... تُطَقْطِقُ العظام، وتنتقل ارتجاجات الكسور في هيكلي كلّه. ويَضربون.

الألم هائلٌ لكنّي لا أصرخ. تذكرون؟ عدتُ ذاكَ النّحيل. عدتُ إلى زمنٍ نخشى فيه أن نهمسَ حتى لأنفسنا. كلُّ شيءٍ تمام. لا شكوى. لا جدوى. لا أصرخ، وإنما ينفجر الألم دون صوت.

ثمّة ضربةٌ على الظّهر أتذكّرها جيّداً لأنّها جعلت ذراعي تتحرّك كرفسةٍ عشوائيّةٍ بعيداً عن رأسي. بعدها انهالَ بُسطارٌ كونكريتيٌّ عظيمٌ بسرعةٍ خارقة. برقٌ صخريّ، ولم أعد أتذكّر أي شيء. لم أعد.


[الصفحة الأخيرة من مذكرات د. مانهاتن*]

أخطأتُ، أنا الرّجل الأزرق الباردُ الذي لا يُخطئ.

أخطأتُ حين قتلتُ رورشاك. كانَ ضميري؛ ضميرَ عقلي البارد وذرّاتي المتراكبة بقوّة فيزياء الكمّ. رغم قسوةِ منطقهِ كان يُمسك العالَم من حلقه. يضغطُ عليه ويضغطُ إلى أن يتحشرج صوته ويكاد يختنق فيلقيه على الكنبة ويغادر. ذلك العالَم كان أنا. كان شروري التي لا أريد أن أراها. وعند اللحظة القاتلة، عند الثانية عشرة تماماً من منتصف ليلة اليوم الأخير من السنة السابقة واليوم الأول من السنة المقبلة، أَلقيتُ بذلك الحجر الضخم، وتابعتُ أرقي الأزليّ تحت سماءٍ مليئةٍ بالنّجوم.. مليئةٍ بالنّجوم حدّ التخمة.


* د. مانهاتن ورورشاك هما شخصيتان من الرواية المصوّرة: Watchmen لألان موور.

** كاتب من الأردن

دلالات

المساهمون