خان يونس: من الفجر إلى الضحى

خان يونس: من الفجر إلى الضحى

23 أكتوبر 2014
لـ حكيم العاقل / اليمن
+ الخط -

1

خوفاً من العدوّ، دفنَ إخوتي، في الثمانينيات، آلة لطباعة المنشورات الوطنية، تحت شجرة في حاكورة البيت. بعد "اتفاقية أوسلو"، بحثوا عنها وقد نسوا مكانها بالضبط؛ فالشجرة كبرت وصار حولها أشجار وأشجار. سادت في تلك الفترة حركة حفر في الأرض، وتحت العتبات.

قادت حركةَ الحفر أحاديثُ كبار السنّ من الأقربين، الذين خبّأوا في الأرض بواريدهم المشحّمة ملفوفة في خيش أكياس السكر وأغطية شتوية. دلّت رواية لمختار عائلتنا يومها الشبابَ على مكان بارودة دفنها تحت عتبة باب. كنا صغاراً. حفروا وحفروا، فعثروا عليها بشحمها الداخليّ، وقد أتى الصدأ على جسدها وصارت خباياها رطبة.  بعد التحقّق من لا جدواها، صارت تلك البارودة لعبة في أيدينا نحن صغار الحارة. وقد شبّهنا الشحمة، ونحن نجترّها بأصابعنا من قلبها، بذلك الصمغ الذي كنا نضعه على العصيّ لاصطياد العصافير.


2

كان توفي مختار عائلتنا، فزار أبو عمار العزاء في حارتنا، لتقديم الواجب. فعلاقة أبو عمار بالعائلات كانت قوية ولم يخرجها يوماً من حساباته. كانت الناس تجلس عادة على كراسٍ بلاستيكية.  لكنّ أحد الرجال طلب قبل وصول عرفات أن نحضر طقم الكراسي الخيزران من بيتنا الذي يطلّ على الخيمة، والذي اعتلى سطحه حرس الرئيس يومها.

جلس أبو عمار على كرسيّ من كراسي الطقم. وصار للكرسيّ صيت بعد أن أعدناه إلى البيت. فكلما جاء زائر مهم علينا قال أحدنا له: تفضّل أقعد على الكرسي الذي قعد عليه أبو عمار!


3

كان أبي دائماً يتذكر أيامه في جيش أحمد الشقيري في أوائل عشرينياته. ولمّا قدمَت السلطة الفلسطينية بعد "أوسلو"؛ شرعت جهات فيها لإعادة تجنيد أو تكريم "المحاربين القدامى" تجنيداً رمزياً لا يعدو كونه تقييد أسماء في سجلات. فلا مهام تتجاوز عملية حراسة ليلية يقوم بها "الختايرة" لمحطة ماء أو محطة تموين شرق المدينة.

طبعاً، كان أبي، الذي كان وصل الثالثة والستين تقريباً، مستهدفاً من أمي بالمثل الرائج على لسانها: "بعد ما شاب ودّوو الكتّاب"؛ وذلك على سبيل "الاستحياء" أو غرابة فكرة أن يعود أبي إلى هذه النكتة العسكرية.

أشرفَ ابن عمي، واسمه أشرف، وهو جندي مستجدّ لتوّه في جهاز الأمن الوطني في المنطقة الجنوبية لقطاع غزة وكان يقوده العقيد أحمد مفرج الذي استشهد في مواجهة مع الاحتلال غرب خان يونس؛ أشرفَ أشرف على تنشيط أبي عسكريّاً على حصيرة في صالون البيت الذي لا تتعدى مساحته 6 أمتار طولاً و4 عرضاً.

أحضر أشرف بزّة عسكرية، في جوّ مسرحي تماماً، ارتداها أبي واحتفط بالحطّة والعقال على رأسه في صورة تذكّر بالجندي الفلسطيني القديم. وكانت أمّي تردّد لتعيد الأهمية إلى نفسها وتقول: "شُغل البيت بيهد أكتر من شغل الجيش!". كان أشرف يعيد تنشيط الحس العسكري عند أبي في جوّ من الضحك المبكي الذي كاد أن يخنقنا من طرافة المشهد: "معتدل مارش.."، "اثبت مكانك يا عسكري"، "انهضْ.. استعد.. تحرّك.. تحية العلم...". هكذا كان أشرف يأمر المحارب القديم: "اعتدااااال يا عسكري!" وأبي يقول لأشرف: "ولك جاي تعلّمني، يا ابن مبارح، أصول العسكرية؟ أنا عسكري من يومي!"، ويذكره بتميّزه ومديح قائد الكتيبة له وببطولاته كأيّ عربي مهزوم!

تحوّل صحن بيتنا المتواضع إلى ميدان تدريب؛ إلى مسرحية بالأحرى عملت على تطهيرنا بالمعنى الإغريقي لكلمة تطهير. ولا أدري: هل كان حنيناً حقيقياً ذلك الذي جعل أبي يتفقد البزة العسكرية ويطويها تحت المخدة التي كانت ترتفع أكثر كأنها حُبلى بجنين؟ أم كان ذلك مجرد أمل بناه على هذه الثروة المعنوية التي طمع بعودتها لشيخوخته في راتب مقطوع يكفيه حاجات بيته؟

لم يتخلّ أبي عن قمبازه ووقاره في الشارع، فكان يذهب به على استحياء للوقوف عن كثب على مهام هذه الطرفة الجديدة: "المحاربون القدامى". وكانت مكافأة أو تكريم هؤلاء المحاربين القدامى، بالطبع كل شهر، صرة تموين أقلّ قيمة من تلك التي نستلمها من "الأونروا!".


4

"لو يسمح الله للميت بالبكاء على نفسه لتحول جثمانه قارباً". هذه الشذرة من قصيدة مؤلفة من 21 شذرة بعنوان "عن الجثث"، كانت نُشرت في ديواني "خلعوا الليل من الشجرة"، ولها قصة حقيقية.

لم أكتبها، لا سمح الله، على مكتب زجاج بخيال خصب. فذات شتاء، كنت أفضّل العيش بمفردي في قبو بيتنا الذي هو فعلاً تحت سطح الأرض تماماً: سقفه مدفون تحت مستوى الشارع. هو أشبه بكهف أو صومعة لعيش الظلال، فلا تراه الشمس، وفيه طاولة عليها كتب وكمبيوتر وفيه أثاث بسيط. وللقبو نافذة أو كوّة من عند نزلة الدرج تطلّ على الحاكورة، ومقابل الكوة جذع شجرة الزيتون. الحاكورة منخفضة.

ذات ليل، كان المطر غزيراً. دخل سيل من الشارع وصارت الحاكورة بركة، فوجد الماء مَسرباً مُقنعاً له من الكوة. كنت في هذه اللحظة نائماً في أمان الله على فرشة قطن. ولم أفقْ على صوت التدفق الخفيف في أول الأمر. أمّي هي من فزّعت الأولاد في شققهم التي فوق، ونادت عليهم: "غرقنا يمّة". وفزعتني بالطبع، فرأيت ما رأيت. أفقت مبلولاً.

كان الماء حديث السلوك إلى القبو. ومع استيقاظنا التام صار أشدّ استيقاظاً منا، فهجم وغمر الفرشات والبسط والمساند، وجرف معه من طمي وأوساخ من تربة الحاكورة والشارع ما جرف. حاولنا منع الماء الهمجي الوسخ القادم من الشارع من عند باب الحاكورة. كانت "ليلة منيّلة" كما يقول إخواننا المصريون. كان فجراً عصيباً جداً. وكنتُ نمت ليلتها لأفيق من أجل موعد فيه شبهة غرامية مع إحدى قريباتنا المغتربات التي جاءت في زيارة إلى القطاع مع أهلها وبقيت تدرس فيه.

بقينا، نحن أهل البيت، من الفجر إلى الضحى، ننزح الماء بدلاء الدهان الفارغة، إذ لم تحضر سيارة دفاع مدني، للأسف.

المهم؛ لم أضع لقائي مع الشابة، وحدثتها بما حدث.


* شاعر فلسطيني مقيم في النرويج 

المساهمون