ذات مساء من مساءات ثورة الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني في مصر، تعرفت إلى خبير عسكري، استطاع تغيير وجهة نظري في "طائفة" الخبراء الاستراتيجيين الذين امتلأت بهم الساحة المصرية، في الفترة التي آلت السلطة فيها إلى المجلس العسكري.
كنت متحفظاً إلى حد الرفض المهذب، حين هاتفني فريق تحرير البرنامج اليومي الذي كانت تقدمه المذيعة ريم ماجد "بلدنا بالمصري" لدعوتي لنقاش بشأن العلاقة المتدهورة بين ثوار يناير والمجلس العسكري الحاكم، وهي العلاقة التي دخلت طريقاً مسدوداً، بعد أن كشر العسكريون الحاكمون عن أنياب أمنية مدببة نهشت في لحم الثورة الحي.
مصدر تحفظي أنني لم أكن مقتنعاً بجدوى الحوار مع هذه الفئة المرصعة بألقاب فخيمة، مع ضحالة لا تحتمل وموقف عدائي مزعج من الثورة والثوار، حتى أكدوا لي أنّ هذا "الخبير" ليس من هؤلاء الذين كنا نطلق عليهم "خوابير".
ذهبت إلى اللقاء ولست مطمئناً تماماً لهذا الضيف الذي لم أكن أعرفه: لواء أركان حرب دكتور عبد الحميد عمران، والذي صار صديقي الجميل فيما بعد، حتى جمعنا، مرة أخرى، الموقف الواحد المشترك، في رفض الانقلاب العسكري، ومن ثم ضمتنا غربة اضطرارية في لندن، شهدت تواصلاً منتظماً، حتى رحل عن دنيانا بالأمس، تاركاً لي شعوراً بالذنب لأنني لم أكن في العاصمة البريطانية ساعة رحيله.. إحساس طاغٍ بأني خذلته ولم أكن قريباً منه، حتى ولم لم نلتق وجهاً لوجه، ذلك أنني منذ تفشي جائحة كورونا امتنعت عن زيارته خوفاً على صحته، إذ كان الأطباء يشددون عليه بعدم مخالطة أحد وهو في هذه السن المتقدمة.
الجنرال، كما كنت أناديه ويناديني، من أفذاذ العسكرية المصرية، فهو المهندس خريج الكلية الفنية العسكرية والمعلم فيها بعد ذلك، وهو المحارب الذي خاض حروب مصر حتى أكتوبر/ تشرين الأول 1973، وهو القارئ المثقف المطلع، والذي انحاز لثورة يناير بعد أن اقترب منها وتعرف عليها عن قرب، بعد فترة من الريبة، تبددت مع الوقت، حتى صار يعتبر نفسه أباً لثوارها، يتابع وينصح ويضع استراتيجيات للعمل.
انتهى لقاؤنا الأول، التلفزيوني، بأن صرنا أصدقاء فيما بعد، وأذكر أنني تركت له نافذتي الصحافية التي كنت أطل منها على القارئ يومياً، حين أرسل لي مقالاً طويلاً نسبياً، في أواخر أكتوبر/ تشرين الأول 2011.
في ذلك المقال بدا الجنرال مسكوناً بيقين ثوري راسخ، يجعله، بمعايير المجلس العسكري الحاكم في ذلك الوقت، ثورياً راديكالياً خالصاً، حيث أرسل لي تحت عنوان: "يا ثوار التحرير: لا توجد ما تسمى ثورة ديمقراطية"، سأعيد نشر أهم ما فيه.
كتب يقول:
"أكره إطلاق شعارات "سلمية.. سلمية.." على الثورات، وأشعر بأن من يرددها وكأنه يعتذر عن قيامه بالثورة، قد أقبل هذا الهتاف خلال المراحل الأولى للثورة، حين تقوم في وجه نظام شديد البطش يمتلك أجهزة قمع قوية لا يمكن قهرها فيلجأ الثوار إلى رفع هذا الشعار لحين استلال عناصر القوة من النظام القائم، أما حين تقوى الثورة ويشتد عودها وتستولي على السلطة، فيجب أن تتوقف عن ترديد هذا الشعار، حيث يصبح ادعاء غير صادق، لأنّ الثورات تكون مسالمة فقط مع أطياف الشعب المستضعف الذين قامت للدفاع عنهم، ولا تكون كذلك بالنسبة للسلطة، إن الثورة تقوم لكي تنتزع مصير الوطن من سطوة نظام ديكتاتوري قمعي فاسد، مثل هذا النظام لن يتنازل عن مقاليد الحكم بسهولة بل سيسعى إلى قمع الثورة والقضاء عليها، فكيف يكون رد الثوار سلمياً؟
الثورات في مراحل التغيير الأولى يجب أن لا تتسم بالديمقراطية بالنسبة لمن قامت لخلعهم، فلا يوجد في التاريخ ما يسمى ثورة ديمقراطية، إن الثورات لا يمكن أن تكون سلمية ولا ديمقراطية مع النظم التي قامت للإطاحة بها، فهذا يقوض مصداقيتها وينافي المنطق.
وكما أن لكل زلزال أرضي توابعه بالضرورة، أيضاً لكل ثورة ثورة مضادة بالضرورة، والثورة المصرية ليست استثناء من هذه القاعدة، فقد ظهرت في بدايتها أمام العالم كثورة متحضرة وراقية قادها شباب يتسمون بالطهارة، ويقدمون الشهيد تلو الشهيد، ويتحدثون بمسؤولية وثبات ورصانة، هذا هو ما أنجح الثورة وأعطاها البريق الذي بهر العالم، لكنها للأسف لم تلبث أن أصابها الترهل والتشتت والتمزق.
بدأ الثوار الأصليون في الانصراف إلى المؤتمرات الإعلامية والقنوات الفضائية في محاولة لحصد ثمار الثورة مبكراً، وكان نتيجة ذلك أن خلا الميدان من الثوار الحقيقيين، واستولى لقطاء الثورة وأشباه الوطنيين على الميدان. ولعل هذا ما تسبب فيما تعانيه الثورة الآن من نكوص وتراجع ربما تسبب فيه أنّ الثوار أنفسهم قد فوجئوا بنجاح الثورة وهو ما لم يتوقعوه ولم يَعدّوا له عدته، وكان من الممكن تلافيه لو أن الثوار قد أعدوا للأمر عدته.
هذه الأخطاء يمكن أن نحددها في الآتي:
• عدم وجود قيادة موحدة للثورة تتحدث باسمها.
• عدم وجود برنامج عمل جاهز للثورة تعمل على تنفيذه فور نجاحها.
• عدم وجود محكمة شعبية للثورة، تعمل على استئصال شأفة أعداء الثورة، ولا تلتزم بالقوانين القائمة.
إنّ التفكك الذي أصاب الثورة بعد شهور قليلة من قيامها، ما كان ليحدث لو أنّ الثورة كانت لها قيادة موحدة تفكر لها وتتحدث باسمها وتفاوض نظام الحكم القائم بالنيابة عنها، لو حدث ذلك لبقي الثوار كتلة واحدة ولما تشرذموا إلى ما يزيد على الأربعين حزباً ولما تفرقوا في مائة ائتلاف.
ونتيجة لعدم وجود برنامج عمل للثورة، فقد وقف ثوار الميدان بعد انهيار النظام حائرين لا يدرون ما يفعلون، لقد سقطت ثمرة الثورة فوق رؤوسهم، وهم لا يعرفون كيفية الاستفادة منها، ويفتقرون إلى الخبرة اللازمة لاتخاذ الخطوة التالية، واستغرقتهم هذه الحيرة بضعة أسابيع حتى وجدوا ضالتهم في المظاهرات التي قامت من أجل بعض المطالب الفئوية البسيطة فاحتموا وراءها وتبنوها وكأن هذه المطالب كانت هي الدافع إلى قيام الثورة وأن تحقيقها هو نجاح الثورة، وعهدوا بتنفيذ هذه المطالب إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة وانصرف كل منهم إلى داره يتلقى تهاني الأهل والأحباب على نجاح الثورة، ولكن أي نجاح هذا وقد تركوا الميدان خالياً يمرح فيه البلطجية وأبناء مبارك وشراذم "الحزب الوطني" المتبقية، لقد كان هذا الخطأ قاتلاً بالنسبة للثورة وهي تدفع ثمنه حتى اليوم.
وشيئاً فشيئاً زاد عدد البلطجية والأبناء وانضم إليهم الأعمام والأخوال فزادت ثقتهم في أنفسهم وفي إمكانية هزيمة الثورة واستعادة السلطة المختطفة، ساعدهم على ذلك تراخي الإجراءات القضائية وتقاعس المجلس العسكري عن إصدار الكثير من القوانين خاصة تلك المتعلقة بتجريم إفساد الحياة السياسية والعزل السياسي لمنع رموز العهد البائد من الترشح لانتخابات المجالس التشريعية، مما ترتب عليه استفحال أمرهم وقوة شوكته بحيث يهددون اليوم بفصل الصعيد وإقامة دولة مستقلة لو طبق عليهم قانون العزل السياسي، فهل يعقل ذلك؟!
ترى لو أن الثوار أقاموا محكمة ثورة لمحاكمة أعداء الثورة وبقايا النظام السابق محاكمات عادلة ليس بموجب قوانين النظام الفاسدة، ولكن بموجب قوانين الثورة، فهل كان سيبقى من يثير الفتنة الطائفية ويطلق النار على الشرطة العسكرية وعلى المتظاهرين في نفس الوقت أمام مبنى ماسبيرو، أو من يضرب أم شهيد ويسحلها على الأرض، أو من يتبجح ويخرج في مظاهرة تطالب بعودة مبارك إلى الحكم، حتى يطيح بالثورة ويعلقهم على المشانق.
يا ثوار التحرير.. لا يوجد ما يسمى ثورة ديمقراطية.. فانتبهوا قبل أن تعلقوا على المشانق".
كان ذلك قبل أن تكمل الثورة عامها الأول، وحين أستعيده بعد عشر سنوات من تلك اللحظة البائسة، أجدني أمام ثائر حقيقي، يمتلك الرؤية لما هو قادم، والذي، وللأسف الشديد، قد تحقق بالفعل، ولعل هذا ما يفسر قراره بمغادرة مصر، عقب الانقلاب العسكري على ثورة آمن بها ذلك العسكري الحقيقي النبيل، وحذر أبناءها من الغفلة والكسل والتراخي، حتى لا يجدوا أنفسهم بين أنياب ثورة مضادة، عسكرية ومتوحشة، تعلّقهم على مشانق الغربة.. وتفترس من بقي منهم مكانه.
في هذا الإطار، يشير الخبير في المجلس الروسي للشؤون الدولية، كيريل سيميونوف، إلى أن روسيا لم تنفِ يوماً وجود شركات عسكرية روسية على الأرض في ليبيا، مرجحاً حصول هذه الشركات على مكافآت مالية سخية من رعاة حفتر الخلجيين. ويقول سيميونوف في حديث لـ"العربي الجديد": "لا تنفي موسكو وجود المرتزقة في ليبيا، لكن المسألة تكمن في من يوفّر التمويل لهم، وهناك خيوط تقود إلى الإمارات. ولولا هذا التمويل، لما ذهب المرتزقة الروس إلى ليبيا. أعتقد أن عدداً من الشركات الروسية الداعمة للجيش الوطني الليبي وحفتر تنطلق من مصالحها الخاصة، أي الحصول على المكافآت المالية التي يدفعها لها بعض الرعاة الخليجيين بسخاء".
ويرجّح الخبير الروسي ألّا تؤثر الأزمة الاقتصادية في روسيا الناجمة عن وباء كورونا وتدنّي أسعار النفط بعلاقتة موسكو مع حفتر، مضيفاً: "لم تستثمر روسيا أي أموال في حفتر، ما يعني أن أزمة كورونا في موسكو والقيود المفروضة بسبب الفيروس لن تنعكس على العلاقة بين الطرفين. لكن الشركات غير الحكومية الروسية التي تسعى إلأى التربّح من حفتر لا لتمويله، قد تعيد النظر في موقفها في حال نشوب مشكلات مالية لدى رعاتها الخليجيين بسبب الأزمة وانقطاع تدفق الأموال منهم".بدوره، يشير الأستاذ في قسم العلوم السياسية في المدرسة العليا للاقتصاد في موسكو، غريغوري لوكيانوف، إلى أن الدولة الروسية لا تستثمر أي أموال في ليبيا، مرجحاً ألا تتغير سياستها تجاه الأزمة الليبية على المدى المتوسط. ويضيف في حديث لـ"العربي الجديد" أن "الدولة الروسية في حدّ ذاتها تتبنّى موقفاً منضبطاً وتقف على المسافة نفسها من جميع أطراف النزاع من دون الانحياز إلى أيٍّ منها، ولا تعترف إلا بضرورة الحل السياسي للأزمة الليبية، استناداً إلى مبادئ الحوار الشامل بمشاركة جميع الأطراف الداخلية الليبية. أما الشركات الأمنية الروسية الحاضرة في ليبيا، فلا مجال لتسوية مصالحها بمصالح الدولة، لكونها شركات تستهدف تحقيق ربح لملاكها".
ومن المؤشرات التي تعزز رواية العزم على مواصلة روسيا أداء دور الوسيط بين الأطراف الليبية، بروز ردود أفعال روسية غاضبة من إعلان حفتر تفرّده بالسلطة، وسط تأكيد وزارة الخارجية الروسية والكرملين رفض خيار الحل العسكري وضرورة الحوار السياسي - الدبلوماسي. وحول دوافع حفتر في إعلان تفرّده بالسلطة بالتزامن مع تفاقم كورونا، يرى لوكيانوف أنه "في الظروف الحالية، لا دولة في العالم مستعدة للتورط النشيط في الأزمة الليبية. لذلك، يمكن القول إن أعمال حفتر ناجمة جزئياً عن فهمه الدقيق للوضع بشكل لا يسمح فيه وباء كورونا لأيٍّ من الأطراف المعنية بعرقلته اليوم". وفي ما يتعلق بتأثير تحركات حفتر على السياسات الروسية في ليبيا، يقول: "أعتقد أن السياسة الروسية تجاه الأزمة الليبية لن تتغير على المدى المتوسط، ولن تذهب القيادة الروسية أبعد من الإدانة اللفظية التي قد أدلت بها لإعلان حفتر، ولن تتخذ أي إجراءات جادة تجاه الشركات العاملة في ليبيا، ولن تقدم على أي خطوات من شأنها الضغط على حفتر".
من جهتها، أشارت صحيفة "نيوز.رو" الإلكترونية الروسية إلى أن مليشيات حفتر تكبدت خسائر كبيرة جراء صداماتها الأخيرة مع قوات حكومة الوفاق المعترف بها دولياً، على الرغم من مشاركة مرتزقة "فاغنر"، ما دفع حلفاء حفتر الخليجيين إلى توسيع نطاق دعمه. وفي مقال بعنوان "جنود الحظ الروس يخيبون آمال حفتر"، ذكرت الصحيفة أن عجز حفتر عن الحفاظ على سيطرته على المدن الساحلية الليبية أثار قلق حلفائه الخليجيين، مع شنّ الإمارات حملة دبلوماسية بهدف زيادة عدد الدول الداعمة له.ومع ذلك، أقرّت الصحيفة بحقيقة مفادها أن التغيير الجذري للوضع، لمصلحة أحد طرفي النزاع الليبي، يتطلّب دعماً أكثر كثافة وكلفة من اللاعبين الخارجيين، سواء من تركيا الداعمة لحكومة الوفاق أو من الإمارات والسعودية ومصر الداعمة لحفتر، وخلصت إلى اعتبار أن العامل الحاسم هو ما إذا كان الرعاة الخارجيون سيقدمون على مثل هذه النفقات في ظروف الأزمة العالمية. وكانت وكالة "رويترز" قد ذكرت يوم الأربعاء الماضي أن تقريراً أممياً سرياً كشف أن شركة "فاغنر" الروسية أوفدت إلى ليبيا ما بين 800 و1200 فرد متخصص في المهمات العسكرية، بمن فيهم قنّاصة، في تعزيز كبير لمليشيات حفتر.