جزائر المستقبل: شيوخ "الرّاب" وزعماء "البودكاست"

جزائر المستقبل: شيوخ "الرّاب" وزعماء "البودكاست"

22 يوليو 2016
مغني راب جزائري (فرانس برس)
+ الخط -

أثناء تصوير برنامج سياسي ساخر كان يُبث على إحدى القنوات الخاصّة، داهمت قوات الأمن استوديو التصوير، وصادرت، قبل أيام قليلة ماضية، الكاميرات والمعدّات المستعملة في تسجيل البرنامج، بعدها أُودع السجن؛ كل من مدير القناة ومدير الإنتاج والمديرة المركزية بوزارة الثقافة، لأنها منحت التراخيص لانطلاق البرنامج، وتواصل مسلسل هذه القضية، بنزول أصحاب برنامج "ناس السطح" إلى أرصفة الشوارع للمطالبة بالإفراج عن السّجناء، والتنديد بالتضييق على حريّة التعبير وتكميم الأفواه.


لم تعد الأحزاب السياسية ولا المنظّمات الحقوقية؛ المكان الوحيد الذي يبحث فيه الشباب عن فضاء للتعبير عن آرائه السياسية والفكرية، أو يرافع على منابرها عن العدالة الاجتماعية والمساواة، فمع تزايد مستخدمي الوسائل الإلكترونية والانفتاح الإعلامي، الأمر الذي فتح المجال أمام عدد من القنوات الخاصّة "مؤقتاً" لعرض تلك الأفكار والتعبير عنها.

فحلّت أغاني الراب، وحلقات البودكاست، وبرامج "تلفزيون الواقع" والبرامج السياسية الساخرة، مكان البيانات الرسمية والخطابات السياسية والدينية.

قاموس الشارع
تُسجّل أغاني الرّاب وفيديوهات البودكاست اليوم؛ أكبر نسب المشاهدة على مواقع التواصل الاجتماعي في الجزائر، خاصّة تلك التي تنتقد الوضع الاجتماعي الراهن وتعبّر عن اهتمامات الشباب وعن مواقفه السياسية، متجاوزة "الخطوط الحمراء" التي تفرضها السلطة على القنوات التلفزيونية الخاصة، لمنع أيّ مبادرات أو برامج من شأنها فتح النار في وجه المسؤولين والوزراء.

في حفلات الرّاب التي ينظّمها عدد من نجوم هذا الطابع الموسيقي، كثيراً ما يردّد الجمهور أغنية ما؛ يحفظها عن ظهر قلب، على الرغم من نصّها الطويل، وسرعة الأداء والإيقاع الموسيقي، ومثل هذه المظاهر، نشاهدها في حفلات الفنان "لطفي دول كانون"، و"كريم الغانغ"، و"الشاب عزّو"، في مقابل ذلك يُستبعد أن تجد بين هؤلاء الشباب من يحفظ مقولات شهيرة لمفكرين وفلاسفة ومنظرين في التاريخ والفكر وعلم الاجتماع.

ربّما، تعود أسباب اقتناع الشباب بأن الطريقة الأفضل لتوصيل رسالتهم إلى أقرانهم وجيلهم، لا تكون إلاّ عن طريق لغة يُستعمل فيها قاموس الشارع الجزائري الذي يحمل هموم شباب اليوم ويعبّر عن انشغالاته، فلم تعد لا لغة الكاتب مالك حداد، ولا المفكر مالك بن نبي، قادرتين على احتواء طموحات ومشاكل شباب اليوم، ولم تعد قواميسهم التي استعملوها في كتاباتهم تسع صراخ جيل اليوم وأحلامه واستنكاراته، لذلك يختار الشباب اللغة الأقرب إلى فهمه والأسهل للتعبير عن أفكاره والتنفيس عن أوجاعه.

مغني الرّاب كريم "الغانغ"، لم يكتف بإطلاق أغاني سياسية جريئة كثيراً ما تحقق انتشاراً واسعاً وسط الشباب الجزائري، فهو إلى جانب انتشاره الفني، توجّه إلى إطلاق مبادرات توعوية وتحفيزية للشباب، كان آخرها قافلة "خاوة في كل مكان"، تنقّل فيها "الغانغ" رفقة عدد من الفنانين والموسيقيين وأبطال رياضيين عبر كل محافظات الوطن الثماني والأربعين، والتقى خلال جولته أكثر من نصف مليون شاب على حدّ تصريحه، يؤكد مغني الراب في حديثه إلى "جيل العربي الجديد" أنّ صناعة رأي عام بحاجة إلى جمهور واعٍ ومثقّف، مضيفاً أنه من خلال جولته حاول الإسهام بجزء بسيط في إقناع الشباب في محاولة تطوير مهاراتهم الفردية والمشاركة الإيجابية في المجتمع.

الإمام والمغني
"الغانغ" يستشهد، أيضاً، بكتابه "أفكار لن تموت" الصادر عن دار بغدادي، والذي حقق أكبر مبيعات للعام الثاني على التوالي بالصالون الدولي للكتاب في الجزائر، حيث وقّع صاحب العمل أزيد من 3500 نسخة على مدار أسبوع، يقول صاحب الكتاب: "إن الكتاب لم يكن موجّهاً للنخبة، ولكن للشباب الذين لا تراودهم فكرة المطالعة، هناك من أطلعني أنه يزور صالون الكتاب لأول مرة فقط من أجل اقتناء هذا العمل، أعلم أن كثيراً من هؤلاء الشباب جاؤوا من أجل مقابلتي، ولكن هدفي لم يكن ربحياً ولا تحقيق أعلى المبيعات، إنما من أجل تحفيز هؤلاء على المطالعة وحسب".

"الكتب على الرفوف وأغاني الرّاب على الأقراص المضغوطة"، هكذا يعيد صاحب برنامج "عقلية دي زاد" الأمور إلى نصابها، ويؤكد أن المعلومة لم تعد حكراً على وسائل الإعلام، ولكن في مقابل ذلك لا يمكن أن تلغي البرامج التلفزيونية ولا أغاني الراب كتب الفكر والسياسة والفلسفة والدين، مضيفاً أن الوسائل الإلكترونية الحديثة أصبحت أكثر فعالية وتحقق انتشاراً واسعاً لدى الشباب، في حين تحتاج الجرائد إلى وقت طويل للصدور.

يعود "الغانغ" إلى اتصال هاتفي تلقّاه من طرف إمام المسجد الكبير بالعاصمة، ينصحه فيه بعدم تخلّيه عن مواصلة بث حلقات "عقلية دي زاد" لأهمية القضايا الاجتماعية التي يناقشها.

يعتبر المتحدّث أن مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، يتداولون الخبر بأسرع ما يمكن وبأقلّ الوسائل المتاحة، معلقاً بالقول: "أردوغان أفشل انقلاباً بتسجيل لدقائق معدودة على هاتفه النقال، ولم ينتظر وصول الكاميرات ولا التقنيين ولا المخرجين لإيصال صوته إلى الشارع".

هروب من السياسة
في الجزائر، وفي ظرف عامين فقط، قامت السلطة الجزائرية بتشميع مقرّات ثلاث قنوات جزائرية، وتسبّبت في بطالة مئات الصحافيين بسبب برامج تنتقد السّلطة، وكانت الحجّة هي عدم امتلاك هذه القنوات تراخيص ترفض وزارة الاتصال منحها لهم أساساً.

"ألو.. وي"، أحد البرامج السياسية الساخرة التي رفعت سقف النقد إلى مستويات أزعجت السلطة الجزائرية، وتسبّبت المواضيع اليومية التي تناقش في استوديوهات الحصّة إلى توقّف البرنامج نهائياً.

البرنامج كان يناقش الأحداث اليومية في الجزائر، ويقلّد شخصيات سياسية وينتقد أداءها الحكومي بطريقة ساخرة، على طريقة اتصال مواطن بأحد المسؤولين أو الشخصيات التي تكون محل خلاف في الشارع، حيث تلقّى البرنامج عدّة إنذارات من طرف سلطة الضبط، قبل أن يتمّ توقيفه نهائياً.

الفنان عماد بن شني، مخرج برنامج "ألو.. وي"، يعترف في حديث إلى "جيل العربي الجديد"، بعدم جدوى الدفاع عن حرية الرأي والتعبير في الجزائر، معبّراً عن يأسه في تناول القضايا السياسية التي تهم المواطن الجزائري بسبب الغلق الإعلامي الذي تمارسه السّلطة على حدّ تعبيره.

هنا، يصف المتحدث؛ برنامجه: "إنّ مضمونه فيه قليل من الفكاهة وكثير من السياسة، مرجعاً سبب عدم دفاع الجمهور عن توقيف هذا البرنامج أثناء الوقفات الاحتجاجية التي نظمت بالعاصمة ومدينة وهران غرب الجزائر، بتأثير "العشرية السوداء" على حريّة التعبير في الجزائر". ويستطرد: "إن الشعب الجزائري تعرّض للقهر في زمن الإرهاب".

ويستعد بن شني للعودة من خلال برنامج كوميدي جديد بعيداً عن النقد السياسي بعنوان "كلش ماشي"، مبرراً ذلك بأنه لم يعد بالإمكان فتح جبهات صراع مع السلطة، ومؤكداً في الوقت نفسه، أن التلفزيونات الخاصّة لم يعد بإمكانها بث برامج سياسية ساخرة "كالتي تعوّدنا على تسجيلها".

شوارع مغلقة
في حين يشدّد بطل فيلم الشهيد "زبانة"، على أنه لا جدوى من التعبير عن الأفكار السياسية اليوم، لا من خلال البرامج ولا من خلال المبادرات الاجتماعية والتنظيمات الشبابية، مستشهداً بغياب التعاطف الشعبي في حالة تعرّض الفنان أو الكاتب للتضييق، موضحاً من جهة أخرى؛ أن الفنان حامل لرسائل إنسانية وقضايا عادلة، ولا يبحث عن منصب في السلطة، يضيف معلقاً: "في الجزائر تمنع حتى المسيرات المؤيدة للقضايا الإنسانية العادلة مثل القضية الفلسطينية، فما بالك بمنتقدي رجال الحكومة"!

أخيراً، وعلى الشبكة التلفزيونية الرمضانية، حقق برنامج "التجربة" "للبودكاست أرابيا" نسبة مشاهدات عالية بين البرامج الكثيرة التي بثتها عديد القنوات، لتناوله قضايا اجتماعية شائكة في الجزائر، منها ظاهرة اختطاف الأطفال، والعنصرية، والعنف ضد المرأة، تزامناً مع إطلاق الكاتب يوسف بعلوج موقع "بودكاست أرابيا" وهو أكبر موقع لبرامج "يوتيوب" في الجزائر، ويلتحق كريم "الغانغ" بزميله "لطفي دوبل كانون" الذي أطلق، العام الماضي، برنامج "كلام من القلب" ناقش فيه عدة قضايا اجتماعية ودينية، وفي الوقت الذي غاب فيه الخطاب الديني والمبادرات السياسية من طرف رجال الدين والأحزاب، ظهر فيه شباب الرّاب والبودكست ومخرجو الحلقات التلفزيونية الساخرة، والتي شكلت في مجموعها جمهورية افتراضية موازية، يقودها نوّاب البودكاستر وشيوخ الرّاب.

المساهمون