الأكاديميا الصهيونية: صناديق ضبط وقمع

الأكاديميا الصهيونية: صناديق ضبط وقمع

08 مايو 2016
(من الحراك الطلابي الفلسطيني في القدس، تصوير: أحمد غرابلي)
+ الخط -

شاعت في عشرينيات القرن الماضي أقوال الصهيوني التصحيحي زئيف جابوتنسكي: "يهودي يحمل علماً وتكنولوجيا، هو شعب الله المختار". انطلاقًا من هذه القاعدة، وفي المؤتمر الصهيوني الأول (1887)، صدر قرار بإنشاء الجامعة العبرية؛ ودشنت عام 1925 على أراضي قرية لفتا المهجرة والعيساوية المقدسيتين، كتوسع استيطاني في منطقة ما يُسمى بـ "شرقي القدس".

حينها، لم تكن الجامعة إلّا مختبرًا عسكريًا استعماريًا، ينضم طلابها إلى المليشيات الصهيونية، مثل "الهاغاناة" و"الإتسيل"، كما تشكّلت طواقم طلابية في وحدات الهندسة العسكرية ووحدات الهندسة الكيماوية لتعزيز قوة العصابات لإحكام السيطرة وإخضاع الفلسطينيين. ألّا أنها اليوم تدّعي أنها مساحة ديمقراطية مهمة للمجتمع "الإسرائيلي"؛ تتيح مجالًا بحثيًا ونقديًا كبيرًا. وتطرح نفسها تحديدًا في القدس على أنها منصة وصوت الثقافات والمهمشين، وهذا لاعتبارات وتقييمات دولية على مستوى الجامعات عالميًا.

لكنها امتداد للمشروع الصهيوني في المنطقة، وتساهم في تطويره وتخرّج نخبًا كي تقوده وتؤثر عليه وتجعله أفضل.

لا فرق بين استهداف الأرض وبين استهداف العقل والوعي العربي الفلسطيني. لا فرق بين تهشيم القدس واستيطانها وضخ وجود عسكري فيها لكسر قوة المجتمع، وبين كيّ وعي الفلسطيني داخلها لعقره بهدف عجزه عن إنتاج مقاومة.

ما يسيطر على المشهد الأكاديمي الصهيوني في هذه الأيام هو حضور مسارين؛ الأول، وهو الهدف القائم من وجود جامعات عبرية صهيونية، مزيد من العلم للشعب اليهودي ومزيد من التقدّم والمعرفة. تُستخدم الجامعات في هذه الحالة كصناديق ضبط وسيطرة على المواد التي تُدرّس في إبراز حقبات تاريخية معينة وإخفاء حقائق وفترات بهدف التضليل والتشويه المعرفي.

غالبية المساقات والمواد تُدرس بفلسفة ومناهج تحليل فلاسفة ومنظرين ومثقفين يهود غربيين تتعامل معهم الأكاديميا الصهيونية كإطار معرفي عام يخدم دورها الاستعماري. أما المستوى الآخر؛ فيتسم بـ "نضوج" المجتمع الصهيوني: مشهد أشبه بترفع عن "الماضي" الدموي لـ "إسرائيل". إذ يتيح كيان العدو ومرافقه الأكاديمية مساحة لمحاضريه ومثقفيه ومجتمعه المدني ولطلابه لنقده والحديث عن جرائم إسرائيل ضد الإنسانية. وكأنها تتصرف كأي دولة ثابتة أخرى لا تعاني قلق الوجود؛ فتفصح عن ماضيها مع الفلسطينيين، في مذكرات وأرشيفات ومتاحف وكتب.

مؤخراً، وصفت الحركة الطلابية الفلسطينية الجامعة العبرية في القدس المحتلة بـ "القامعة العبرية". كان بذلك بعد قرار عميد الطلبة كوهين يورام بإحالة اثني عشر طالبًا للجنة التأديبيّة، بعدما شاركوا في مظاهرة من أجل الأسرى الإداريين في زنازين الاحتلال، عام 2014.

لم يستجب الطلاب أبدًا لهذا القرار، وإنما كتبوا ونظموا مظاهرات وضغطوا على الجامعة حتى تراجعت وسحبت التهم الموجهّة بإخلال النظام داخل الحرم الجامعي، والتي تراوح عقوبتها بين تحذير حتى الطرد لفصل دراسي. سجّلت بهذا الحركة الطلابية نصرًا على ماكينة قهر قامعة، متورطة حتى الجذور بعسكرة الحيز العام فيها ومن حولها.

الصندوق، نعم داخل صندوق مغلق، لا يستطيع المرء أن يرى ما خارجه وما يحيطه به. كذلك صُممت وبُنيت الجامعة العبرية؛ تصميم عمراني استعماري يلف بمن فيه داخل أروقته ويفصله عما وراء جدرانه وأسقفه العالية وجدرانه المتراصة.

امتازت الاستراتيجيّة المعماريّة للحرم الجامعي بما تراه العين الصهيونية، وكيف يجب ضبط العين الفلسطينية. ووفقاً لدراسة بعنوان "السياسات الجنسية والجندرية"، أنجزتها الباحثة يارا السعدي، فقد "خطّطت مباني الجامعة بطريقة “Megastructure” أي مبانٍ عدّة متجاورة تشكّل مبنىً واحدًا كبيرًا يبدو كحائط، وذلك كردّ معماريّ على أسوار القدس القديمة".

تضيف: "إضافة إلى الحائط، يعلو الحرمَ الجامعي برجٌ يقوم بدور "البانوبتيكون"؛ أي برج المراقبة، والذي "يرى الشخص فيه كل شيء ولا يُرى". وجرى تخطيط هذه المباني بطريقة يمكن بحسبها رؤيتها من مسافة بعيدة، ابتغاءَ إعطاء انطباع تغْلبُ عليه القوّة والرهبة".

ولاحظت أن "المنظر من داخل الحرم الجامعي، يطلّ على أجزاء مختلفة من القدس، لكن من دون الحارات العربيّة المجاورة. تصب جميع هذه السياسات المعماريّة في تكريس الاستراتيجيّة الاستعماريّة في سبيل خلق الحدود بين الـ "أنا" و"الآخر"...".

كما أن للجامعة العبرية ماضياً وحاضراً مليئين بالقمع وتكميم الأفواه من خلال منع إقامة نشاطات سياسيّة، أو خلق عملية بيروقراطية معقدة لاستصدار التصاريح للأنشطة، لتقتل الروح المعنوية لدى النشطاء. إضافة إلى إعطاء معلومات لقوات الشرطة والمستعربين لاقتحامهم السكنات الطلابية ليلًا، واعتقال نشطاء من الحركة الطلابية.

في جامعة حيفا، يتّخذ القمع منحى تصعيدياً؛ إذ تمتاز "حيفا" عن "العبرية" بكونها لا تأبه لمستواها وترقيمها العالمي بين الجامعات، ويتضّح هذا من تعاملها القمعي الفوري مع أي نشاط سياسي طلابي داخل أروقتها.

تُعقد لجان تأديبية، ويجري تحويل قضية عامة وطنية، إلى قضية مخالفة شخصية يُحاسب عليها الطالب ضمن اللجنة، ويخضع لدستورها وقانونها. غالباً ما كلّفت المظاهرات بعض الطلاب فصلًا دراسيًا. كل هذه السياسات تستخدمها الجامعة كجهاز يضبط الطلاب الفلسطينيين ويردعهم عن ممارسة أي نشاط سياسي.

(فلسطين)