غرفة سجن تدمر الصدئة
ها هو القبحُ يظلُّ أمامنا الآن بجوهره (مواقع التواصل)
في الطريق تدحرجت إلى سمعه همساتُ أمِّه وأختِ جدته، وقد باعت الأم سوارها الذهبي لتظفرَ ولو بنظرةٍ لعينيها مع حبيبها ووالدِ طفليها الذي غُيّب على حين غفلةٍ قبل سبع سنين.
تعاود أختُ جدته الهمسَ في أذُن أمّه: رح يفرح حسّان إنو صار عندو صبي!
في كلّ مرّةٍ تبقى الهمسات وما دونها منقوشةً في تلك الروح الخضراء، التي لا تدركُ ما يحدث حولها. لكنها ولجفافٍ ما في نسيجها لم تعِ سببه حينها تبتلعُ كلَّ الهلام الذي يحوم حول رأسه من هنا وهناك، وتستنشقُ كراتِ لا بأس بها من البخور المتطايرِ إليها حينما تقضمُ نساءُ العائلة شفاهَهن في جلساتهن التي يقضين معظمها همساً، وتبتلعُ كل "النّهرات" المرتبكة التي تومئ له بالانصراف من حولهن خشيةَ التقاط الهمس. لتظلّ هذه الروح تُتجاذب ما بين الاخضرار والجفاف وترواحُ بينهما.
ترتطمُ عيناه بالمكان للحظات: المبنى الكبيرُ المثقّب بالأشباح، وجومُ الأشخاص عند بوابته وفي الممرات وهيئاتهم الغليظة. لا يعيرُ اهتماماً لذلك، ينشغلُ بإسراع خطواته مع خطوات أمِّه وأختِ جدته اللّتين تمسكان يديه وأخته باتجاه الغرفة المنشودة.
بعد مشيٍ طويل يدخل معهم غرفةً تتّشح بالظلمة واليباب، لتجترّ أمُّه آلامها وتذرف دموعَها عندما يخبرها المسؤول العتيدُ فيها أن زوجها ليس موجوداً هنا لأنه انتقل لمكانٍ آخر، فيعودون أدراجهم يعدّون الخيبات والسنين. وتقضي الأم وأخت الجدة طريقهما باكيتين، ويظلّ الأب والزوج مجهول المصير إلى الأبد.
ابنُ السابعة أمس، يَشخصُ اليوم ذاهلاً بعد ثمانية وعشرين عاماً أمام صورةِ الغرفة التي دخلها طفلاً غريراً ليس له ذنب إلا أنه ابن رجلٍ أطبقت على جسده قضبانُ هذا المكان القميء..
تلك الغرفة التي طُبعت تفاصيلُها المعمّمةُ بكثيرٍ من القبح والفزع والألم في ذاكرته ووجدانه، ليصيحَ بأعلى صوته، مُقسِماً ومؤكداً أنها الغرفةُ ذاتُها التي شهدت غرق أمّه في دموعِها وفي انكسارها، وأنه ينقصها فقط السريرُ العسكريّ ذو الطابقين مقابل المكتب لتكتمل هيئتها.
يدخلُ ابنُ السابعة الغرفةَ غير مدركٍ للقُبحِ الأخلاقيّ للمكان، لكن ثمّة ما حُفر في ذاته الطريّة، وتسرّب إليها واستقر رغم غموضه.
ظلّ القُبحُ المعجون بانكسار أمّه منطبعاً في ذاكرته رغم غضاضتِها ورغم قلّة إدراكه، وتكاملَ ذلك مع إلمامه بكلِّ تفاصيل المكان المادية، بل ربما كان ذلك الصّديدُ الثقيلُ من مزيج القُبح والانكسار هو الداعي لبقاء هذه التفاصيلِ في ذاكرته ثمانيةٍ وعشرين عاماً.
ها هو القبحُ يظلُّ أمامنا الآن بجوهره موجوداً كما هو في المكان، لأنه هو.. هو منذ أربعين سنة: لم يغيّره شيء، ما حدث فقط هو أنه ظهر للسطح بعد أن كان في القاع. وأن ما غلّفه وحجبه الاستبدادُ والظلم عرّاه وهشّمه الزلزال الذي يضرب جذور الظلم ذاته ويهزّ أركانه ويقصمه.. بيد أنه يخبئ في ثناياه طوفاناً من الغصّات والذكريات النابتة من رحم الدموع والفقد والحرمان الخالدين.
* ملاحظة: الصورة المرفقة للغرفة ليست تعبيرية، بل هي عينها المذكورة في النص
(مصر)
تعاود أختُ جدته الهمسَ في أذُن أمّه: رح يفرح حسّان إنو صار عندو صبي!
في كلّ مرّةٍ تبقى الهمسات وما دونها منقوشةً في تلك الروح الخضراء، التي لا تدركُ ما يحدث حولها. لكنها ولجفافٍ ما في نسيجها لم تعِ سببه حينها تبتلعُ كلَّ الهلام الذي يحوم حول رأسه من هنا وهناك، وتستنشقُ كراتِ لا بأس بها من البخور المتطايرِ إليها حينما تقضمُ نساءُ العائلة شفاهَهن في جلساتهن التي يقضين معظمها همساً، وتبتلعُ كل "النّهرات" المرتبكة التي تومئ له بالانصراف من حولهن خشيةَ التقاط الهمس. لتظلّ هذه الروح تُتجاذب ما بين الاخضرار والجفاف وترواحُ بينهما.
ترتطمُ عيناه بالمكان للحظات: المبنى الكبيرُ المثقّب بالأشباح، وجومُ الأشخاص عند بوابته وفي الممرات وهيئاتهم الغليظة. لا يعيرُ اهتماماً لذلك، ينشغلُ بإسراع خطواته مع خطوات أمِّه وأختِ جدته اللّتين تمسكان يديه وأخته باتجاه الغرفة المنشودة.
بعد مشيٍ طويل يدخل معهم غرفةً تتّشح بالظلمة واليباب، لتجترّ أمُّه آلامها وتذرف دموعَها عندما يخبرها المسؤول العتيدُ فيها أن زوجها ليس موجوداً هنا لأنه انتقل لمكانٍ آخر، فيعودون أدراجهم يعدّون الخيبات والسنين. وتقضي الأم وأخت الجدة طريقهما باكيتين، ويظلّ الأب والزوج مجهول المصير إلى الأبد.
ابنُ السابعة أمس، يَشخصُ اليوم ذاهلاً بعد ثمانية وعشرين عاماً أمام صورةِ الغرفة التي دخلها طفلاً غريراً ليس له ذنب إلا أنه ابن رجلٍ أطبقت على جسده قضبانُ هذا المكان القميء..
تلك الغرفة التي طُبعت تفاصيلُها المعمّمةُ بكثيرٍ من القبح والفزع والألم في ذاكرته ووجدانه، ليصيحَ بأعلى صوته، مُقسِماً ومؤكداً أنها الغرفةُ ذاتُها التي شهدت غرق أمّه في دموعِها وفي انكسارها، وأنه ينقصها فقط السريرُ العسكريّ ذو الطابقين مقابل المكتب لتكتمل هيئتها.
يدخلُ ابنُ السابعة الغرفةَ غير مدركٍ للقُبحِ الأخلاقيّ للمكان، لكن ثمّة ما حُفر في ذاته الطريّة، وتسرّب إليها واستقر رغم غموضه.
ظلّ القُبحُ المعجون بانكسار أمّه منطبعاً في ذاكرته رغم غضاضتِها ورغم قلّة إدراكه، وتكاملَ ذلك مع إلمامه بكلِّ تفاصيل المكان المادية، بل ربما كان ذلك الصّديدُ الثقيلُ من مزيج القُبح والانكسار هو الداعي لبقاء هذه التفاصيلِ في ذاكرته ثمانيةٍ وعشرين عاماً.
ها هو القبحُ يظلُّ أمامنا الآن بجوهره موجوداً كما هو في المكان، لأنه هو.. هو منذ أربعين سنة: لم يغيّره شيء، ما حدث فقط هو أنه ظهر للسطح بعد أن كان في القاع. وأن ما غلّفه وحجبه الاستبدادُ والظلم عرّاه وهشّمه الزلزال الذي يضرب جذور الظلم ذاته ويهزّ أركانه ويقصمه.. بيد أنه يخبئ في ثناياه طوفاناً من الغصّات والذكريات النابتة من رحم الدموع والفقد والحرمان الخالدين.
* ملاحظة: الصورة المرفقة للغرفة ليست تعبيرية، بل هي عينها المذكورة في النص
(مصر)
